• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (11)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

لسنا في صدد التعريف الفلسفي لمعنى الحُجّة، ولا التعريف المنطقي، ولا التعريف الأصولي.. وهو كلّه بعد المرور في دهاليز تلك العلوم التي تعبّر عنها ب(البرهان والأمارة والدليل والأصل والطريق) يرجع أصله إلى التعريف اللُّغوي الذي يقول (الحُجّة: هي ما يَحتَجّ به المولى على عبده، أو يَحتَجّ به العبدُ على مولاه، أو النظيرُ على نظيره).

نعم.. لسنا في صدد ذلك بل نريد التعريف القرآني للكلمة لاندماجه في تعريفها الرّوائي حيث نروم إليه من شرحنا لقول الإمام الكاظم (ع) لهشام:

“يا هشام.. إنّ لله على النّاس حُجّتَين، حُجّةً ظاهرة وحُجّةً باطنة.. فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام.. وأما الباطنة فالعقول”.

فنلتقي هنا (قرآنيًّا) مع كلمة (الحُجّة) في تفسير هذه الآية الكريمة: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) بما قاله الإمام الصادق (ع): “إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة، عبدي أكنتَ عالمًا؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عَمَلتَ بما عَلِمتَ؟! وإن كان جاهلًا قال له: أفلا تَعلَّمتَ حتى تعمل. فيَخصِمُه بتلك الحُجّة البالغة”.

وهنا نتّجه نحو تعريفها روائيًّا بالرّجوع إلى رواية الإمام الكاظم المذكورة والتي تفيد أنّ الحجّة هي ما أقامه الله على الناس في الدنيا لطاعتهم له، وما يسلبهم بها في الآخرة كلّ عذرٍ إذا ما قَصَّروا في الطاعة على ضوء تلك الحجّة.

ونستفيد من هذه الرواية الشريفة أيضًا بأنّ هاتَين الحجّتَين متفقتان في رسالتهما الإلهيّة بلا أدنى تضارُب، وإلا تساقطتا عن الحُجّية. فما يقوله الرّسول والإمام ويفعلانه ويُقرّانه بالصّمت في مقام التعبير عن الرأي يكون مطابقًا مع المرتكزات العقلية. والعكس صحيح. بمعنى أنّ هذا العقل -وليس شبيهه- يستحيل عليه أن ينكر على أقوال الرّسول والإمام وأفعالهما وتقريرهما.

بناءً عليه فإنّ العقل أفضل لاقطة مضمونة الجودة قد نَصَبَها اللهُ فينا لدعم حُجَجِه الظاهرة وللكشف عن زيف ما يُلصَق بهم عبر المتاجرين بالدّين في مختلف الأزمنة.
لأنّ هاتين الحجّتين تتبادلان الشرعية لبعضهما البعض على طريقٍ واحد هو طريق الطاعة لربٍّ واحد. فلا الحجّة الظاهرة لوحدها تستطيع هداية الناس إن لم يُنشِّطوا عقولهم جيّدًا، ولا الحجّة الباطنة لوحدها تستطيع هدايتهم إن لم يستمعوا للرسول والإمام. فالذي يترك إحداهما رغبةً في الثانية كمَن يركب طائرةً قد عَطَبَ أحدُ جناحَيها أو كمن يستخدم أدويةً من دون إشراف الطبيب الحاذق!!

من هنا لن يكتشف الحقيقةَ الكاملة مَن يعتمد عقله فقط.. وكذلك لن يكتشفها مَن يلغي عقله بذريعة التمسّك بالنصوص الشرعية فقط.

لذا تبقى الحاجةُ إلى العقل قائمةً لتفسير الشرع به تفسيرًا صحيحًا، مثل الحاجة إلى الشرع كي نطبّقه في صورةٍ ناصعةٍ من جاذبيّة الحكمة والعقلانيّة. وبهذَين الجناحَين نطير في آفاق المعرفة الواجبة في ممارسة التكليف الشرعي.

من هذا المنطلق فقد اهتمّ الوحيُ القرآني والرّسول الأعظم وأئمة أهل البيت
بتعريف العقل وحدود أدائه المشروع، ذلك لكي لا يأتي أناسٌ وبدعوى العقلانيّة يعبثون في ثوابت الشرع وأحكام الدّين. وكذلك لا يأتي أناسٌ يدوسون العقل ويفسّرون الدّين بحماقاتهم. ففي كلتا الحالتين إما تبتلي الأمّة بالعلمانيّة المغلّفة بالدّين فتشتغل في الحفر تحت قواعده حتى تهدمه، أو تبتلي بالقشريّة والتحجُّر والتعصُّب المؤدِّية إلى مسلك التكفيريين والخوارج والمتطرّفين.

نستطيع وعي هذا التعاضد بين الحجّتَين بأن نحدِّد لعقولنا وهي الحجّة الباطنة مهمّة الإقرار بالكلّيات ولا شأن لها بالجزئيات.. فمثلًا العقل يؤيّد العفاف والهدف هو صَون شرف المرأة وسلامة الأسرة وتنزيه المجتمع من المفاسد الجنسيّة. ولكنّ الدّين يحدّد الطريق إليه.. فيقول: إنما يتحقّق ذلك بالحجاب ويعيّن حدوده على الجسم، وبعدم الإختلاط، وعدم الضحك مع الأجنبي، وترك التعطّر عنده، ونبذ الزينة المغرية له، وعدم لبس الضيِّق، وعدم الخلوة معه وتليين الصوت وترقيقه بالتمايُع.
هذه الجزئيات هي من أحكام الدّين وقد لا يدركه العقل بدون الإستماع للنبي والإمام ومَن ينطق عنهما في عصرنا كالفقهاء والعلماء.

وبعبارة أخرى.. هناك مرتكزات عقلية تُلقي موافقاتها الكلّية على ما تصدر عن الحجّة الظاهرة من جزئيّات في الأحكام وتفاصيل في الفقه العملي.

وبهذا نعالج الإجابة على أسئلة الذين يطلبون فلسفة الأحكام الشرعية كشرط لقبولها والإستجابة لها.

ولمزيد من تبيين هذه المسألة الهامّة في ركن الوعي الثقافي الأصيل نقول:

لعل الآية التالية تؤيّد ما ذكرناه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

فاليقين الباطني (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) هو يقين العقل الحجّة.. ولكن التمرّد الظاهري (وَجَحَدُوا بِهَا) إنما هو الظلم على النفس والعدوان على الغير.

كما ولا نستبعد -والله العالم- أن يكون هذا العقل الحجّة هو نفسها الفطرة التي قالت عنها الآية: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

وذلك بدليل الأمر بالدّين الحنيف وهو الحجّة الظاهرة، إذ تنصّ الآية على كونه مدعومًا بالفطرة، وهي الحجّة الباطنة التي خَلَقَ الله جميع الناس على مبادئها الثابتة بالعقل التلقائي.. ثم تؤكّد الآية على أنّ هذه الفطرة هي الدّين القيِّم حيث يجهله أكثر الناس كما نرى ذلك على أرض الواقع.

أيّها القارئ العزيز:

عندما تستوعب جيّدًا هذه المفاهيم لا تتساهل في اتخاذ قرارك لنسف أيّة شبهةٍ أو عقيدةٍ باطلة ابتليتَ بها في حين غفلة -والعياذ بالله-.

قرّر كيلا تنحرف بك أهواؤك فتنكبّ عن الطريق إلى الله تعالى وتخسر فرصتك الوحيدة في الدنيا بخسارتك لحسن العاقبة.

إنّ هذه النصيحة والتي تحملها إليك سلسلة مقالاتنا في تحرير العقل إنما من أجل إنقاذك أوّلًا ولمشروع خلق شبابٍ يعيشون التوازن الديني والعقلاني، وهم أمل مجتمعاتنا لصناعة غدٍ خالٍ عن الصراعات التافهة والسلوكيات الذيليّة وما يُسخِط الله ويُخسِرنا الجنة.

دُمتَ واعيًا للقصد.. والله هو المستعان.

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
7/صفر/1438
8/نوفمبر/2016

للاعلى