عوامل الصعود
وأسباب السقوط

تلخيصاً لمحاضرة سماحته التي ألقاها في ذكرى مولد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وحفيده الإمام الصادق (عليه السلام) في حسينية أهل البيت (عليهم السلام) بمملكة البحرين (المحرق) مساء الأثنين (ليلة الثلاثاء) 17/الربيع الأول/1437.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)

يشير الخط البياني للمجتمعات البشرية وحضاراتها إلى صعود وسقوط لها وفق نمطين من العوامل والأسباب:

* كَونيّة (تلك ما يتعلّق بفعل الله).
* بَشَرِيّة (وهي ما يتعلّق بفعل البشر).

ذكر القرآن الكريم بصائر كثيرة في هذا الأمر، منها في الأسباب الكونية: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).

ومنها في الأسباب البشرية: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).

ولعل المفكّر الإنجليزي (آرنولد تُوينبي) المتوفى في سبعينيات القرن العشرين وهو صاحب نظريّة فلسفة التاريخ وصعود الحضارات وسقوطها.. يلتقي كثيراً في مجال تخصّصه مع ذلك الطرح القرآني، وقد عَدّ (توينبي) الحضارات البشرية التي صعدت ثم سقطت إلى 21 حضارة وأطلق عليها (الحضارات المُنقطعة) والتي بقيت منها خمسة -كما يعتقد- لامتلاكها عنصري “التحدِّي والإستجابة”. ويؤسّس لسقوط الحضارات والدول ثلاثة أسباب:

1/ ضعف القوَّة الخلاَّقة في الأقلِّـيَّة المُوجِّهة عندما تتحوّل إلى سلطةٍ تعسّفية.
2/ تخلِّي الأكثريَّة عن مُوالاة الأقلِّـيَّة المُسيطرة.
3/ الإنشقاق وضياع الوحدة في كيان المُجتمع.

ونحن حينما نراجع تاريخ الحضارات والدول والجماعات والأمم بل وحتى الشخصيات نراها بالفعل قد ظهرت ثم اندثرت بنفس تلك الأسباب التي ساقها القرآن الكريم وحلّلها أمثال (توينبي).

فمن تلك الجماعات التي يحلو للبعض تسميتها بالحضارة العربية.. هي ما سمّاها الإسلام بالجاهلية الأولى، وكشفت عن كامل تخلّفها سيدتُنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الشهيرة وبيّنت كيف قد أنقذ أبوها ذلك المجتمع المتوحِّش.. بذلك فهو (صلى الله عليه وآله) أعظم قائدٍ شَهَدَه التاريخ قد وصفه مولانا الإمام علي (عليه السلام) بقوله: “لم أرَ مثلَه قبلَه ولا بعدَه”.

فما هي عوامل القوّة في هذا الإسلام الذي أخرج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الخير كلّه.. وهل لازال قادراً على إنتاجه الأول بعد رجوع أكثر (المسلمين!!) إلى الجاهلية ثانيةً؟!

نعتقد أن عوامل القوة الإسلامية لازالت موجودة.. ولكنّها جامدة على مستوى النظريّة إلى أن يستفيق المسلمون من سباتهم لتفعيلها على مستوى التطبيق!!

نحن في هذه الوقفة السريعة بمناسبة المولد النبويّ الشريف ومولد الإمام الصادق نستشرف أهمّ تلك العوامل في مجال التطبيق إن كان لها أهلُها، وهي ثلاثة:

* العامل الأول..
المشروع الكامل:

(لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

+ ألف- (البيّنات).. هي البراهين الدالّة على إلهيّة المشروع الإسلامي للإنقاذ.. وذلك بالعقل والمعجزة وبالعلم والفطرة.

+ باء- (الكتاب).. كلّ القوانين التي يحتاجها الإنسان كفرد وكأسرة وكمجتمع وكمؤسسة وكدولة حيث سطّرها الإسلام كأحكام وكأخلاق وكآداب.

+ جيم- (الميزان).. مرجعية القضاء العادل لفصل النزاعات وتنظيم المسارات الحقوقية.

+ دال- (القسط).. أن يمارس الناس العدالة بإرادتهم ويستثمروا مردودها الطيّب.

+ هاء- (الحديد).. المادّة التي لازالت تحتاجها الصناعة والعمران والمدنيّة والدفاع.

* العامل الثاني..
القيادة المتميّزة:

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

تعود إلى هذه الآية كلّ الآيات التي تناولت صفات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حينما تحدّثت عن رحمته ورأفته وتعليمه الناس الكتاب والحكمة وجهاده ومشورته أصحابه وعدله وعفوه وعدم فظّه وغلظته.

يقول وصيّه الإمام علي (عليه السلام) عن بعض تلك الصفات: “كان لا يجلس ولا يقوم إلاّ على ذكر… ويعطي كلّ جلسائه نصيبه ولا يحسب أحدٌ مِن جلسائه أنّ أحداً أكرم عليه منه… مَن سأله حاجةً لم يرجع إلا بها أو ميسور من القول. وقد وسع الناس منه خُلقَه فصار لهم أباً وصاروا عنده في الخَلق سواء، مجلسه مجلس حلمٍ وحياء، وصدقٍ وأمانة، ولا تُرفَع فيه الأصوات… متواضعين، يوقرون الكبير ويرحمون الصغير ويُؤثِرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب… كان دائمُ البِشر، سهلُ الخُلق، لِينُ الجانب… يتغافل عمّا لا يشتهي. فلا يُؤيَس منه، ولا يُخيِّب فيه مؤمِّليه… إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنَّ على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلّموا، ولا يتنازعون عنده الحديث… ولا يقطع على أحد كلامه… كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير والتفكير. فأمّا التقدير ففي تسوية النظر والإستماع بين الناس. وأمّا تفكّره ففيما يبقى ويفنى. وجُمِعَ له الحلم والصبر. فكان لا يُغضِبه شيء ولا يستفزّه، وجُمِعَ له الحذر في أربع: أخذُه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركُه القبيح ليُنتهى عنه. واجتهادُه الرأي في صلاح أمّته، والقيامُ فيما جُمِعَ له خير الدنيا والآخرة… قد تَرَكَ نفسَه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وتَرَكَ النّاس من ثلاث: كان لا يذّم أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلاّ فيما رجا ثوابه… وكان لا يكلّم أحداً بشيء يكرهه… ليس بفظّ ولا غليظ ولا ضحّاك ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح… وكان يقول: إنّ خيارَكم أحسنُكم أخلاقاً”.

* العامل الثالث..
التأسّي الرسالي:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).

القادة من بعده (صلى الله عليه وآله) وهم أوصياؤه الأئمة الإثنى عشر (عليهم السلام) كانوا هُمُ الأكملين في التأسّي. والآخرون إلى يومنا بمقدار تأسّيهم اكتسبوا العزّة والمجد والنجاح.

* وفي الختام:

نؤسّس على ما سبق ونقول.. إننا في الطريق إلى تحقيق المشروع الكامل على الأرض (وهو العامل الأول) يجب علينا توفير القيادة المتميّزة (وهو العامل الثاني) ثم التأسّي به أسوةً رسالية (وهو العامل الثالث)، وإلا سيبقى الإسلام منفيّاً عن الحياة ينتظر رجاله الحقيقيين بقيادة المهدي من آل محمد الحفيد الموعود الذي سيُحي الأرض ومَن عليها إحياءاً لدور جدّه الذي قال الله عزوجل فيه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا).

من هنا إذن.. كان للصعود الحضاري في الإسلام عوامله كما كان للسقوط أسبابه.. ونحن مسؤولون أمام الله ورسوله وأهل البيت للسعي في طريق العوامل الثلاث.. حيث ختمت الآية قائلةً (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

أللّهُمّ نَبِّهنا مِن نَومَةِ الغَافِلِين واجعَلنَا مِنَ العَامِلين ببصيرةٍ وإخلاصٍ ويَقِين…

للاعلى