وبالإرادة
نبني السعادة والنجاح

تلخيصًا لخطبة الجمعة التي ألقاها سماحته بين صلاة الظهر والعصر بمسجد الرسول الأعظم (ص) في محافظة المحرّق (مملكة البحرين) 24/صفر/1438.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

تتشكّل دعوة الإسلام من ثلاثة أبعاد:

* التعاليم الإعتقادية.
* الأحكام الفقهية.
* الآداب والأخلاق.

وذلك في إطار عناوينها الخمسة المعروفة:

1/ الواجبات.
2/ المحرّمات.
3/ المستحبّات.
4/ المكروهات.
5/ المباحات.

إلا أنّ الإلتزام بهذا الإسلام لابدّ له من إرادة نابعةٍ من داخل الشخص نفسه، فمن دونها لا يتحقق شيء من تلك الأمور المؤدّية به إلى السعادة والنجاح. ويسمّي الإسلام فاقد الإرادة مَن اتّبع هواه في السّير خلف رغباته الذاتيّة ومشتهياته النفسيّة.

أيّها الإخوة والأخوات:

إنكم لما تنظروا إلى كلّ الآيات والروايات تجدون الإرادة منظورةً فيها كمحورٍ أساسيٍّ للتكليف الشرعي.

• فمثلًا آية جهاد النفس: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ).

• ومثلًا آية التقوى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

• ومثلًا آية التغيير: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

• ومثلًا آية الإبتلاء والصبر: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

وهكذا آيات التعقُّل والتفكُّر في البُعد العقائدي، وآيات الصلاة والصوم والزكاة والخمس والحجّ والجهاد مثلًا في البُعد الفقهي، وآيات الأمر بالصّدق والعفو والإيثار واحترام الرسول.. والنهي عن الغيبة والنميمة والفحش في البُعد الأخلاقي…

فلا يمكن تسمية الشخص مسلمًا ومؤمنًا إن لم تكن فيه إرادة العمل بهذه الأبعاد الثلاثة للإسلام ومستلزمات الرُّقيّ الإيماني. لذلك استنكرت الآية التالية حالة المؤمنين الذين يقولون خيرًا ولا يفعلونه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

فلمّا كانت الإرادة بهذه الضرورة القصوى كيف يحقّ للمسلم تضعيفها وقتلها باتباع شهواته في الجنس وفي المُسكِرات والمخدَّرات وفي العادات السيئة وفي استخدام ألفاظ البذاءة والسفاهة مما يعكس مستواه الداني ويكرّس به ظاهرة التخلّف العام في المجتمع.

لذلك حرّم الإسلام جميع تلك المعاوِل التي تهدم الإرادة، وما أوجب مثل الصيام في ترك الحلال إلا لتقوية الإرادة التي يحتاجها المسلم في تحدّيات الحياة. فكما تعرفون أن بعض المفطرات حلال قبل الصيام وبعدها، ولكنّ الإسلام يريد بتحريمها المؤقت تقوية الإرادة فينا كي لا نخضع لهوانا وعاداتنا ولنكون بمستوى الكلمة حينما نعاهد أنفسنا وغيرنا باتخاذ الحق والفضيلة سبيلًا في حياتنا. لأن الحياة ليست إجتناب المحرّمات فقط.. بل هناك أمور تخدش بشخصية الفرد وهي أقلّ من المحرّمات. فكما قال الإمام الكاظم (ع) لصاحبه هشام: “يا هشام.. إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب ، وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض”.

من فضول الدنيا كثرة الأكل مثلًا.. فهي ليست من المحرّمات ولكنّها ليست من علامات الذين يحملون هدفًا راقيًا في حياتهم.

أو السّهر مثلًا في مشاهدة الأفلام والمسلسلات غير الفاسدة وبالتالي عدم الإهتمام الجادّ بالدراسة والحصول على الدرجات الكاملة.. فهو ليس من المحرّمات ولكنّه مما يفوّت على الشخص فرص الإرتقاء نحو الأفضل.

أو التدخين مثلًا.. فإنّه شيء تافهٌ قد أدخله الإستعمار في حياة المسلمين منذ ما يقارب 400 عامًا، وتجتني منه الشركات الأجنبية ملايين البليارات من المال سواءً في أصل السيجاير بيعًا وشراءً ونقلًا وتسويقًا أم في علاج الأمراض المترتّبة عليها. لذلك أفتى المراجع بحرمة التدخين الإبتدائي. فلم يعُد الشابّ يفهم الأضرار التي ستلاحقه وتلاحق مَن يعيش معه من زوجة وأطفال إلى آخر العمر.

نقل لي صهري قبل يوم بأنه كان واقفًا عند مطعم فرأى صبيًّا في 13 من عمره يدخّن وإذا به يقدّم سيجارة لصديقه الذي في نفس العمر أيضًا. فامتنع من أخذها. فسمعه يقول له: خُذ.. دخِّن.. ألستَ صرتَ رجّالًا!!

أنا في السجن، ذات مرّة سمعتُ شابًّا في الحجرة المجاورة يلتمس من الشرطي أن يعطيه سيجارةً واحدة فقط. وكان التماسه مليئًا بالذلّة والتمسكُن حتى كاد يقع على أقدامه ويلحس حذاءه من أجل سيجارة يسرّبها له.

هذا جزء مما يريده الشيطان والإستعمار لشبابنا في إذلال أنفسهم.. فكيف إذا أُدمن على المخدَّرات، أليس يكون مستعدًّا أن يبيع دينه من أجل بعض الجرعات. كما هو الحال.

فإرادة الإقلاع عن التدخين وغير التدخين موجودة في كلّ مبتلى بالأشياء الضارّة ولكنّه اتباعًا لهواه يبرّر لنفسه العجز كي يستمر على سرابه ثم ينتهي إلى الفشل في أكثر أموره الأخرى.

أمّا الإنسان الذي يعرف عزّته ويحافظ على كرامته وينظر إلى المستقبل البعيد فلن يُعوِّد نفسه على نقاط الضعف بأيّ شيء كان.

وهنا سؤالٌ:

كيف نكتسب الإرادة ونقوّيها في داخلنا؟

الجواب:

1/ قراءة سيرة العظماء في التاريخ كالأنبياء والأوصياء والفقهاء والمفكّرين والمخترعين والشخصيات القيادية حيث بقوّة إرادتهم فتحوا قُلَل النجاح، فخلّدهم التاريخ ومجّدهم المُعجَبون بهم حتى تعلّموا منهم مقدار ما أنجزوا من النجاح في حياتهم.

2/ مطالعة ما كتبه علماء النفس والتربية وخبراء تنمية المهارات وتطوير الذات في مجال الإرادة. أو الحضور في دوراتهم التثقيفية.

من ذلك قولهم في تعريفها: {بأنّ الإرادة هي تصميمٌ واعٍ على أداء فعلٍ معيَّن، ويستلزم هدفاً ووسائل لتحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى العمل الإرادي الوليد من قرارٍ ذهنيٍّ سابق}.

ومنها ما قاله ابن سينا: {الوهم نصف الدّاء، والإطمئنان نصف الدّواء، والصبر أول خطوات الشفاء}.

ومنها ما ورد في قصص حكماء الصين مثلًا، من أنّ شابًّا جاء عند أحدهم ليتعلّم منه سرّ النجاح، فسأله: هل تستطيع أن تذكر لي ما هو سرّ النجاح؟ فردّ عليه الحكيم الصيني بهدوء: سرّ النجاح هو الدوافع.

فسأله الشاب: ومن أين تأتي هذه الدوافع؟ فردّ عليه الحكيم: من رغباتك المشتعلة. وباستغراب سأله الشاب: وكيف تكون عندنا رغبات مشتعلة؟

وهنا استأذن الحكيم الصيني لعدة دقائق، وعاد وبيده وعاء كبير ممتلئ بالماء. وسأل الشاب: هل أنت متأكد أنك تريد معرفة مصدر الرغبات المشتعلة؟ فأجابه الشاب بلهفة: طبعاً.

فطلب منه الحكيم أن يقترب من وعاء الماء وينظر فيه، ونظر الشاب إلى الماء عن قرب وفجأةً ضغط الحكيم بكلتَي يدَيه على رأس الشاب ووضعه داخل وعاء الماء. مرّت عدّة ثوان ولم يتحرّك الشاب، ثم بدأ ببطء يخرج رأسه من الماء، ولما بدأ يشعر بالإختناق بدأ يقاوم بشدّة حتى نَجَحَ في تخليص نفسه وأخرج رأسه من الماء ثم نظر إلى الحكيم وسأله بغضب: ما الذي فعلتَه؟!

فردّ عليه وهو ما زال محتفظاً بهدوئه وابتسامته: ما الذي تعلّمتَه من هذه التجربة؟ فردّ الشاب: لم أتعلّم شيئاً.

نظر إليه الحكيم الصيني قائلاً: لا يا بُني لقد تعلّمتَ الكثير، ففي خلال الثواني الأولى أردتَ أن تخلِّص نفسك من الماء ولكن دوافعك لم تكن كافية لعمل ذلك، وبعد ذلك كنتَ راغباً في تخليص نفسك فبدأتَ في التحرّك والمقاومة ولكن ببطء، حيث إنّ دوافعك لم تكن قد وصلت بعد لأعلى درجاتها، وأخيراً أصبحت عندك رغبة مشتعلة لتخليص نفسك، وعندئذ فقط أنت نجحتَ، لأنه لم تكن هناك أيّة قوّة في استطاعتها أن توقفك.

وهنا أضاف الحكيم الصيني قائلًا:
عندما تكون لديك رغبة مشتعلة للنجاح فلن يستطيع أحدٌ إيقافك.

3/ الوعي بأهمّية الهدف النهائي للحياة وقيمة الوقت والنفس. وهذا ما نجده في خطبة الإمام علي (ع) حول أوصاف المتقين: “عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا، أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ…”.

4/ الصداقة مع الصالحين وتجنّب أصدقاء السوء ومجالس البطّالين. يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: “…أو لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ فَخَذَلْتَني ، أو لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِي الْغافِلينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني ، أو لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلِفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ فَبَيْني وََيْنَهُمْ خَلَّيْتَني…”.

5/ التلقين الذاتي بأنك تستطيع ترك الشيء السيّء، وهذا لابدّ من تكراره باستمرار كيلا تتعاجز عن اكتساب عوامل النجاح والسعادة ويوسوس لك الشيطان بالرجوع عن تصميمك.

التلقين يمارسه حتى أهل الباطل لتقوية إرادتهم وصمودها. وأهل الحقّ أولى به.

يقول نابليون: لا توجد كلمة مستحيل إلا في قاموس الضعفاء.
وذات مرّة قالوا له أنّ جبال الألب شاهقة تمنع تقدّمك، فقال: يجب أن تزول من الأرض.
وكان معروف عنه قوله: أنّ الإرادة القويّة تُقصِّر المسافات.

6/ ننصح بالرياضة البدنيّة ورياضة المشي خصوصًا، فلها أثرٌ كبير في تقوية الإرادة. وكذلك تنظيم ساعات النوم، والتبكير في نوم الليل ثم اليقظة قبل أذان الصبح.

* وأخيرًا..

إننا أيّها الآباء.. أيّتها الأمّهات نقف أمام تحدٍّ كبير بالنسبة لأبنائنا والجيل القادم.. فلنقرّر أن نزرع فيهم إرادة الخير والصلاح قبل أن يزرع فيهم إبليس وأعوانه إرادة الشرّ والفساد. وإلا سنندم في الدنيا على فشلهم ولا ننجو من حساب الله وعتابه في الآخرة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

للاعلى