الإمام الرضا (ع)
كلمة في الحياة الأفضل

تلخيصًا لخطبة سماحته في يوم الجمعة 17/شهر صفر/1438 بمسجد الرسول الأعظم (ص) في المحرق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

ملاحظتي وأكرّرها في أكثر المناسبات لعلّ وعسى أن ينتبه لها إخواني الخطباء زاد الله في توفيقاتهم.

تلك هي أن غالب المنابر أصبح الخطيب يسرد فيها مقاطع التاريخ ويتحدّث عن أدلة الإمامة ومعاجز الإمام ثم ينعى قصائد عن مظلومية أهل بيت رسول الله (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) ويختم بالدعاء.

صار الناس يعرفون هذا الشريط المتكرّر الذي أصبح من أهمّ أسباب عزوف جيل الشباب عن الحضور لأغلب هذه المجالس إذ يقولون لأنفسهم ليس هنالك من جديد، فقد حفظنا الدرس من زمان!!

أقول يا أحبّتي الذين وفقكم الله لارتقاء المنبر الحسيني:

أما آنَ الأوان أن تقولوا للناس ماذا يريد منهم الإمام الذي تتحدّثون في ذكراه.. وما هي آراؤه في قضايا الحياة.. وماذا قال في التربية وفي الأسرة، وفي العلم والمعرفة، وفي التعامل مع الموافق والمخالف ومع الجار ومع الزميل في العمل، وفي آداب الأكل واللباس والنظافة والسفر واختيار الكلمات.. وماذا قال هذا الإمام عن الأمور الصحّية والسياسية والتجارية وفوائد التفكر والعبادة ومضارّ المعصية وآثارها في الدنيا والآخرة، وكيف ننمّي شخصياتنا بالأخلاق الحسنة، وكيف نستثمر الوقت ونختار الزوج الصالح والزوجة الصالحة، وكيف نخرج من الضيق النفسي ونتصرف في الطوارئ…

كل هذه القضايا الحياتية مع الأسف لا تُطرَح وهي الهدف من بعد الإعتقاد في الإمامة ومقام الإمام. وهم (صلوات الله عليهم) قالوا في ذلك وأكثر. ولكن الغفلة جعلت أكثر الخطباء يمشون مع الجوّ العام بلا همّةٍ في التغيير ولا إبداعٍ للتطوير.

وتظهر نتيجة هكذا توجيهات ناقصة في بناء الفرد الشيعي بجناح واحد فقط، وهو حبِّ أهل البيت (ع) والحضور في المواكب والتبرّع للطبخ والعمل في توزيع طعام بركة الإمام الحسين (ع) والسفر لزيارته.. ولكنه:

* مُهمِل لزوجته -أو العكس-…
* لا يعرف كيف يربّي أبناءه…
* سريع الغضب.. يتعصّب ويسبّ ويهين غيره على أبسط الأمور…
* فاشل في وظيفته وتجارته وزمالته…
* لديه مشاكل مع الجيران…
* سيّء الألفاظ مع الناس…
* غبيٌّ في المواقف…

والكارثة إذا درس في الدين قليلًا وحصل على فرصة الخروج إلى الناس عبر شاشة الفضائية أو عرف كيف يستخدم أجهزة الحاسوب ونشط في مواقع التواصل الإجتماعي.. هنا يتحوّل إلى قنبلة إنشطارية كما ترون مثالها في قنوات الفتنة والوجوه التي لا تشرّف الشيعي المهذّب بأخلاق أهل البيت أن ينظر إليها ويستمع لها.

ترى هؤلاء السفهاء يتكلمون عن الإمام والإمامة جيّدًا ولكن بلغة السبّ واللعن والتمسخر والتهجّم على كل من لا يعجبهم مستخدمين ألفاظاً قبيحة يهدمون بها كل ما قدّموا من كلام طيّب عن الإمام والإمامة. وهذه قمّة الحماقة التي فوّتت الشيعة الكثير من فرص التقدّم والنجاح.

اليوم هو ذكرى استشهاد الإمام الرضا الذي قال عنه عبدالسلام بن صالح الهروي: سمعتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: « رَحِمَ اللهُ عبداً أحيا أمرَنا ».
فقلت له: كيف يُحْيي أمرَكم؟
قال: « يتعلّمُ علومَنا ويُعلِّمُها الناس؛ فإنّ الناس لو عَلِموا محاسنَ كلامِنا لاَتّبعونا ».

لا شك أنّ أئمتنا (عليهم السلام) كانوا يريدون تأسيس أمّةٍ بحقائق الإسلام، وهذه الأمة تتكوّن من أفراد ذكروا صفاتهم في أحاديثهم.

منها على سبيل المثال قوله (ع): “لا يكون المؤمنُ مؤمنًا حتى تكونَ فيه ثلاثُ خصال سُنّة مِن ربِّه وسُنّة مِن نبيِّه (ص) وسُنّة مِن وليِّه (ع). فأمّا السُنّة من ربِّه فكتمانُ السرّ. وأمّا السُنّة من نبيِّه (ص) فمداراةُ الناس. وأمّا السُنّة من وليِّه (ع) فالصّبر في البأساء والضرّاء”.

سأختصر الإشارة إلى هذه المبادئ الثلاثة لتعرفوا أنّ كلمة واحدة من أئمتنا قادرة على صناعة أمّة عظيمة لو كنّا نعمل بها:

1/ كتمان السرّ.

كم تعلّمنا من الله أن نكون ستّار عيوب بعضنا البعض.
كم التزمنا حدودنا في عدم البَوح بكل ما نعلم.
كم فكّرنا قبل أن نقول كلمةً ونجلب للمذهب والناس مشاكل.
كم نحن بمستوى الأمانة في أسرار الحياة الزوجية والخلافات العائلية والقضايا المجتمعية والأمور السياسية والمناقشات المذهبية.. فدرسنا منافع وخسائر الكلام والصمت قبل اتخاذ قرار فيهما.

أليس الله أعلم منّا بخفايانا الشخصية. لماذا ننتهك حرمات بعضنا البعض ولا نتعلّم من الله الكتمان وضبط النفس.

قيل أن نبيًّا من الأنبياء وقف على تلّ ونظر إلى مدينته. فطلب من الله أن يكشف له الحُجُب. وإذا شاهد جريمة قتل هناك. فطلب من الله هلاك المجرم فورًا. وشاهد فاحشة الزنا هنا. فطلب من الله أن يعاقب الزاني والزانية فورًا. ونظر فإذا جماعة يتشاجرون. فلعنهم ودعا عليهم. ونظر جانبًا فرأى مائدة خمر وقمار. فطلب من الله أن ينزل عليهم العذاب الآن الآن.

فأوحى الله إليه أن يا فلان.. هؤلاء عبادي وأنا أعلم بحالهم، أنا أمهلهم فلعلهم يتوبون ويصلحون. فلا تتدخّل فيما ليس شغلك!!

2/ مداراة الناس.

كان رسول الله (ص) يداري الناس إلى أن يهتدوا.. وإلا تركهم وشأنهم إلا مَن كان يتآمر على دينه وأمّته كالمشركين والمنافقين، فأيضًا يمشي معهم إلى آخر طريق العفو والتسامح…

فأصل المداراة من أصول الحكمة وقيم الأخلاق النبيلة. كم تعلّمناها في سلوكنا. وكم اتخذناها وسيلة في إدارة مشاريعنا.

وهل الفوران والتسرّع والتهجّم وتسقيط الآخرين بالبهتان والغيبة والتشهير ينسجم مع مفهوم المداراة؟!

هل الوضع الذي ترونه بين الناس وتعكسه رسائل الواتسابات في زماننا دليل على صفة المداراة أم عدمها؟!

3/ الصبر في البأساء والضرّاء.

البأساء هي حالة الحرب.. كما يجري اليوم في العراق وحرب الشيعة الدفاعية ضد الإرهابيين. ولولا أبطال الحشد لما كان ملايين الشيعة وغير الشيعة من محبّي الإمام الحسين يتمكنّون من السفر إلى كربلاء…

فهؤلاء صابرون في بأساء المواجهات وآلام الجروح وساعات الشهادة.

وأما الضرّاء فمثل المضايقات التي ترونها هنا وهناك من الظلم والإستهزاء بنا وغير ذلك في التعامل المثير للأعصاب.

فالصبر ضرورة في كلتا الحالتين. لأنه من صفات أئمة أهل البيت سواءً في الحرب كالإمام عليّ وولديه الحسن والحسين. أو في الأذى كبقيّة الأئمة الذين كانوا يعرّضهم أعداؤهم للإهانات والحصار والإضطهاد.

صبرهم كان عامل انتصارهم المعنويّ على مدى العصور. وهو النجاح الحقيقي الذي يثمر الفلاح الأخروي. مقابل خسارة أعدائهم لسمعتهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم.

أقول:

لماذا خطباؤنا الكرام يغفلون عن شرح مثل هذه الرواية الشريفة وتطعيمها بقصص من حياة نفس الإمام الذي يتحدّثون في ذكراه أو بقية الأئمة الأطهار ليخرج الشيعي من مدرسة المأتم الحسيني بزادٍ من الفكر الذي يعينه في النهوض بحياته إلى الأفضل.

أليس إذا كان الجعفريّ صالحًا في فكره وقوله وفعله لقال عنه الناس هذا جعفريٌّ. فيدخل سروره على روح الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) والعكس يكون العكس.. إذ كم من جعفريٍّ بذيء سخيف جاهل وأحمق قد قالوا عنه أنظروا هذا جعفريٌّ. فدخل على الإمام جعفر بن محمد الصادق عارُه فَحَزَنَ وتألّم.

فيا أيها الإخوة.. أيتها الأخوات.. ولاسيّما الخطباء الأعزاء:

تعالوا جميعاً لنراجع الأسس التي نريد أن نبني عليها حياتنا ومستقبل أبنائنا.. هل طبّقنا من تلك الخصال الثلاثة شيئاً على واقعنا؟

وفي الختام:

أدعوكم ونفسي إلى العمل برسالة الإمام الرضا (ع) التي أرسلها للسيد عبدالعظيم الحسني خطابًا لكل شيعي على مرّ التاريخ.. ما أروعها من رسالة:

{يَا عَبْدَ الْعَظِيمِ أَبْلِغْ عَنِّي أَوْلِيَائِيَ السَّلَامَ وَ قُلْ لَهُمْ أَنْ لَا تَجْعَلُوا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا ، وَ مُرْهُمْ بِالصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَ مُرْهُمْ بِالسُّكُوتِ وَ تَرْكِ الْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ ، وَ إِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَ الْمُزَاوَرَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إِلَيّ ، وَ لَا يَشْغَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَمْزِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً ، فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَ أَسْخَطَ وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي دَعَوْتُ اللَّهَ لِيُعَذِّبَهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، وَ عَرِّفْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِمُحْسِنِهِمْ ، وَ تَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ ، إِلَّا مَنْ أَشْرَكَ بِي أَوْ آذَى وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي أَوْ أَضْمَرَ لَهُ سُوءاً ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ وَ إِلَّا نُزِعَ رُوحُ الْإِيمَانِ عَنْ قَلْبِهِ وَ خَرَجَ عَنْ وَلَايَتِي وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُصِيبٌ فِي وَلَايَتِنَا ، وَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِك}.

للاعلى