• مِن الآن:
ساهِم في تحرير عقلك…
الرسالة (8)
لأهمّية الحكمة في الحياة قد أثنى الله عليها لرسوله وقال: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ…).
والحكمة في هذه الآية المباركة تعني الطرح المنطقي للموضوع باستخدام الأدوات العلميّة والدليل العقلي، وذلك على نحوٍ تتفاعل معه الفطرة في داخل المستمع، بحيث لا يبقى له مفرٌّ من حكمها عليه إلا هواه الذي يكشف عناده للحقّ ويجعله في مواجهة تأنيب ضميره.
إنّ هذه البصيرة القرآنيّة توجّهنا نحو تحرير عقولنا بالقدرة على إقناع الغير والإقتناع منه على محور الحقّ بلا تعصّب.
وهنا مجموعة مسائل:
• الأولى.. إعتماد الحقّ بما هو حقّ لا بما يحبّه الناس. فالناس مختلفون في ميولهم ولا يمكن ترضيتهم جميعًا. بينما الحقّ واحد. واعتماده يجلب لك رضا العقلاء (الحقيقيّين) من الناس. وفي هذا أيضًا رضا الله تعالى.
• الثانية.. أن يكون العمل بالحقّ بعد الإقتناع به جاريًا وفق أُسلوب شعبيٍّ سَلِس وتعايُشيٍّ سَمِح.
إذن ليس من حقّك أن تُكره غيرك بما توصّلتَ إليه من قناعة حتى لو كنتَ مُحقٍّا.
فهذا ربّك -جلّ جلاله- يقول لنبيّه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
فمن أنا ومن أنت لنكره الآخرين على ما نراه حقًّا والحقّ كلّه عند النبيّ الأكرم الذي لم يطلب منه ربّه سوى البلاغ المبين؟!
تفيدنا هذه البصيرة بأنّ الحكمة ثباتٌ في قالب المرونة.. ومرونةٌ في قالب الحرّية.. وحرّيةٌ في قالب الإحترام لخيارات الآخرين…
وتساندها النصيحة في قالب المحبّة والمجادلة في قالب الأخلاق. وهذا ما قالته بقيّةُ الآية: (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
• الثالثة.. عندما تقرّر أن تحرّر عقلك.. تَذكَّر بأنّ العبوديّة للأفكار والثقافات والعادات شيء قبيح منك ولاسيّما عندما تتعصّب لأشخاصٍ غير معصومين عن الخطأ فتكون قد صنعتَ منهم معبودًا وأنت لا تشعر.
ليس هذا دعوةٌ لك للتمرّد بقدر ما هو تدليل على سبيل التحرّر من خلال دعوتك إلى مراجعة مسبقاتك الفكريّة وعاداتك السابقة والفعليّة عبر:
* التعلّم أوّلًا.
ففي الحديث عن الإمام علي (ع): “تَعَلَّم عِلمَ مَن يَعلَمُ ، وعَلِّم عِلمَكَ مَن يَجهَلُ ، فَإِذا فَعَلتَ ذلِكَ عَلَّمَكَ ما جَهِلتَ وَانتَفَعتَ بِما عَلِمتَ”.
* والتواضع للحقّ ثانيًا.
فقد قال الإمام الكاظم (ع): “ﻳﺎ ﻫﺸﺎﻡ.. ﺇﻥّ ﻟﻘﻤﺎﻥ، ﻗﺎﻝ ﻻﺑﻨﻪ: ﺗﻮﺍﺿﻊ ﻟﻠﺤﻖّ ﺗﻜُﻦ ﺃﻋﻘﻞَ ﺍﻟﻨﺎﺱ”.
* والإنفتاح ثالثًا.
حيث قال الإمام علي (ع): “الحِكمَةُ ضالَّةُ المُؤمِنِ ، فَاطلُبوها ولَو عِندَ المُشرِكِ تَكونوا أحَقَّ بِها وأهلَها”.
فإذا اجتمعت لديك هذه الخطوات الثلاثة لا تقُل لنفسك كيف أغيّر طريقي، وماذا أقول لصديقي، والناس ماذا سيقولون عنّي؟؟؟!!!
بل قُل يا ربّ هذا عبدك.. أنت خالقي وأنا لك.. إفعل بي ما أنت أهله، ولا تفعل بي ما أنا أهله. أللّهمّ أرِني الحقَّ حقًّا لأتّبعه، والباطل باطلًا لأجتنبه، ولا تجعله عليّ متشابهًا فأتّبِعَ هواي من دون علمٍ منك…
ولعلّ سؤالًا يجول في ذهنك.. وذلك عن السبب الحقيقي في الإنحرافات والخلافات والنزاعات بين الناس؟
أقول: السبب هو صفة العناد والتكبّر والغرور والحسد. وهي صفة إبليس الذي انطلق منها في التمرّد على أمر الله تعالى وسَبَّبَ للناس كلّ الأزمات إلى يوم القيامة.
وتسألني: ما هو الحلّ؟
أقول: هل تعلم بماذا عَرَّف الإمام علي (ع) حقيقة الإسلام؟
عَرَّفه قائلًا: “لَأَنْسُبَنَّ اَلْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، اَلْإِسْلاَمُ هُوَ اَلتَّسْلِيمُ ، وَ اَلتَّسْلِيمُ هُوَ اَلْيَقِينُ ، وَ اَلْيَقِينُ هُوَ اَلتَّصْدِيقُ ، وَ اَلتَّصْدِيقُ هُوَ اَلْإِقْرَارُ ، وَ اَلْإِقْرَارُ هُوَ اَلْأَدَاءُ ، وَ اَلْأَدَاءُ هُوَ اَلْعَمَلُ”.
نعم.. التسليم، وهو روح التواضع، بمعنى أنّ التواضع تجسيد خارجيٌّ للتسليم إن كان بداخلك. وعلامته أن ينتهِي بك إلى العمل وإلا فليس لديك تواضعٌ للحقّ، إذ ليس هناك تسليم في قلبك من الأساس.
وعيُك بهذه المفاهيم يبني لك صرحًا من العقلانيّة التي تثبت أنك بالفعل قد مشيتَ في طريق تحرير عقلك وتغيير نفسك وفق ما قاله الإمام الكاظم (ع) في حديثه لهشام حول وصايا لقمان الحكيم: “ﻳﺎ ﺑُﻨﻲّ ﺇﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺤﺮٌ ﻋﻤﻴﻖ،ٌ ﻗﺪ ﻏَﺮِﻕَ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﻟَﻢٌ ﻛﺜﻴﺮ، ﻓﻠﺘﻜُﻦ ﺳﻔﻴﻨﺘُﻚ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻘﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺣَﺸﻮُﻫﺎ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭﺷﺮﺍﻋُﻬﺎ ﺍﻟﺘﻮﻛّﻞ، ﻭﻗَﻴِّﻤُﻬﺎ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻭﺩﻟﻴﻠُﻬﺎ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﺳِﻜّﺎﻧُﻬﺎ ﺍلصّبر”.
وهنا أختم لك هذه الرسالة بقصّة شابّ كان مثالًا لهذا الحديث ومصداقًا لتلك المفاهيم.. وهو ﺍﻟﺴﻴّﺪ ﺍﻟﻤﻴﺮﺩﺍﻣﺎﺩ. يُحكى أنه كان في منتصف ذات ليلةٍ باردة جالسًا في حُجرته بمدرسة دينيّة في أصفهان يقرأ ويراجع دروسه، وإذا يُطرَق باب المدرسة، ذهب وفتح الباب فتفاجأ بفتاة جميلة تستجير به ليُئويها حتى الصباح. فأجارها السيّد وآواها مضطرًّا على هذه الخلوة بالأجنبيّة، ولكنّه أجلسها في زاوية الحجرة، وحَبَسَ ذهنه بالإنهماك الشديد في قراءة كتابه، وإذا بدأ الشيطان يوﺳﻮﺱ ﺇﻟﻴﻪ، فجاهَدَ السيّد الشابّ شهوته بوضع ﺇﺻﺒﻌﻪ على حرارة الفانوس الذي بجانبه ﻟﻴﺘﺬﻛّﺮ ﻧﺎﺭ ﺍﻵﺧﺮﺓ.
وما أن جاء الصباح طلب منها أن ترحل بسرعة إلى بيتها.
خرجت الفتاة، وذكرت القصّة لأبيها وما جرى لها من حادثٍ في الطريق وجعلها وحيدة في ظلمة الليل القارص مما ألجأها الخوف إلى أقرب باب. ثم بيّنت قصّة هذا الشابّ كيف كان يحرق إصبعه. فأرسل عليه أبوها ليجزيه على نزاهته في حفظ الأمانة. فما كان جزاؤه إلا أن طلب منه أن يتزوّجها.
هكذا نقلت حكمةُ هذا السيّد الشابّ المتمثّلة في تقواه وإيمانه وتوكّله وعقله وعلمه وصبره من ذلك الفقر المُدقَع إلى قصر أمير المدينة -وهو أبو الفتاة- فصار يخدم الدّين والمجتمع من هذا الموقع الجديد.
ولذا اشتُهر السيّد محمد بلقب (ميرداماد) ويعني (صهر الأمير).
• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.
مع تحيّات:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
29/محرم الحرام/1438
31/أكتوبر/2016