• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (7)

لا يوجد أحدٌ لا يحبّ الخير، وحتى الذي يمارس الشرّ يحبّ الخير ويغضب إن نسبتَ له شرّه وانتقدته عليه.

ولكن لماذا الإنسان يحبّ الخير هكذا؟

لأنّه مشدود إليه بالفطرة.. ولأنّ الخير معناه فيه وإسمه معه.. ولأنّ الإنسان بالخير يعيش ناجحًا محترمًا سعيدًا.. وشامخًا محبوبًا مهيبًا.. وجذّابًا عزيزَ النّفس وجيهًا…

ولماذا لا يكون أكثر الناس من أهل الخير؟

لأنّهم يطلبونه بلا سعيٍ وتعبٍ واهتمام.. وهذا ما لا يكون ولن يتحقّق. أليس الله -عزّ وجل- قال وبأداة الحصر: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ).

فلابدّ إذن من قرار السّعي، وهو الأساس التنفيذي في مشروع تحرير العقل إن كنتَ معنا على هذا الخط!!

عرفنا أنّ الخير مطلوب الجميع، ولكن من أين السبيل إليه؟

قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

فإذا كان الخير يأتي من الحكمة بمشيئة الله لعبده المخلص، ففي غيابها يأتي الشرّ دائمًا وهو نتيجة البُعد عن الله -عزّ وجل-.

لذلك وجب الحثّ على إحياء الحكمة قبل أن تنقرض تمامًا كما انقرضت من حياة أكثر الناس وأكثر الحكّام وأكثر العلماء وأكثر المثقفين، ودليله هو انقراض الخير إلا ما بقي منه بمقدار الحكمة لدى البعض النوادر.

هذا ما حملته إلينا خاتمة الآية المذكورة (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) عندما أفادت بأنّ أصحاب العقول حصريًّا هم الذين يَذَّكَّرون قيمة الحكمة ومصدرها الإلهيّ وما يترتّب عليها من الخير الكثير. وأما غيرهم فلا يمكنهم ذلك بعد تعطيلهم لنعمة العقل التي وهبها الله إياهم.

فأُولُو الْأَلْبَاب -في الآية الكريمة- هم الذين يتمسّكون بآليات الوصول إلى الحكمة ليكتسبوا بها الخيرَ مِن وجودهم ثم ليمتدّ منهُمُ الخيرُ إلى غيرهم.

وهنا حقيقة دقيقة.. هي أنّ العقول والألباب متفاوتةٌ بتفاوُت درجة التذكُّر عند أصحابها وقوّة مراجعتهم لمخزون القيم الفطريّة لديهم، وهذا هو السبب وراء ما يصدر عن الإنسان الحكيم أحيانًا ما لا يليق بحكمته، إنها الساعة التي يغفل عن نفسه وربّه وقيمه. لهذا كانت لكلّ إنسانٍ مساحةٌ من الخير. فمنه الكثير ومنه المتوسط ومنه القليل ومنه الأقل تبعًا لدرجة عقله ومساحة تحريره ومقدار تعبه في مجاهدة أهوائه وقدرته على ضبط النفس في مواقف الغضب.

ولعلّ هذا هو معنى التذكُّر في الآية والذي تقابله الغفلة، إذ بمقدار ما يكون الإنسان غافلًا عن الأخذ من مخزون فطرته يكون محرومًا عن الخير في مواقفه وسلوكه فيوجب وقوعه في الخطأ والزّلل.
وكذلك أيضًا بمقدار ما يكون ذاكرًا لله جلّ جلاله ولقِيَم الحقّ المودَعة في فطرته يكون موفورًا بالخير مصونًا عن الخطأ والزّلل.

من هذه المسألة الدقيقة يستلّ سؤالٌ عن الحكمة من سقوط بعض المعروفين بالحكمة في زلّات وأخطاء؟

* أوّلًا.. كيلا يحسبهم البعض معصومين، بينما المعصومون محدودٌ عددُهم وبالأسماء (صلوات الله عليهم أجمعين).

* ثانيًا.. كيلا يصنع الناس من الحكماء أصنامًا يتفانون في حبّهم على المطلق ويتحاربون لأجل الدفاع حتى عن أخطائهم.

* ثالثًا.. كيلا يجعل الناس حكماءهم سقفًا أمام أجيالهم من التقدّم في اكتساب المزيد من الحكمة واكتشاف ما لم يتوصّل إليها أولئك السابقون.

* رابعًا.. كي يختبرنا الله تعالى كيف نتصرّف مع زلّة الحكماء.. هل نغفرها حيث أمرنا النبيّ الأكرم (ص) قائلًا: “غريبتان: كلمة حِكَمٍ من سفيهٍ فاقبلوها. وكلمة سَفَهٍ من حكيمٍ فاغفروها”. أم ننسى جميع ما قدّموا من خيرٍ ونغتال كرامتهم بسهام التسقيط في العلن فنصير كالجار الذي قيل عنه: “قَصَمَ ظهري جارٌ يرى حسناتي فيستُرُها ويرى سيئاتي فينشُرُها”.

فكما ذكرت الآية إنّ الحكمة هي مما يؤتيه الله، ولكن بسعيٍ من الإنسان كما في الآية الأخرى. ومن هذا السّعي أن يذكر الإنسان ربّه تعالى ذكرًا كثيرًا.. بُكرةً وأصيلًا. وهذا لا ينتج إلا أن يزهد الذاكر في الدنيا، فيجاهد هواه ويترك شهواته المفرطة في الحلال، فضلًا عن الشهوات المحرَّمة.

عندما يبلغ العبد هذا المستوى سيعرف الأشياء بمواضعها فيضع كلّ شيء في محلّه بالحقيقة لا بالوهم. وهذا معنى الحكمة التي قالها الإمام الكاظم (ع) في تفسيره لقول الله -عزّ وجل-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) حيث قال: “بالفهم والعقل”.

وهنا عندما نريد العمل لتحرير عقولنا يجب أن نبصر العنصرين التالييَين:

1/ (فهم الموضوع بالدقّة اللازمة).

2/ (التعقّل في التعامل مع الموضوع).

فإذا أوجدناهما في أنفسنا فقد أوجدنا الحكمة في سلوكنا وآتانا الله الخير الكثير منها وبها.

وفي ختام هذه الرسالة:

إنّ حديثنا عن الحكمة.. ليس حديث الفلاسفة عنها بالتأكيد. وإنما تحدّثنا عن الحكمة التي ورد تعريفها في هامش كتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسي -رحمه الله- من تعليق الشيخ النمازي الشاهرودي بأنّ:

(المراد من الحكمة التي آتاها الله تعالى أنبياءه ورسله وأولياءه لا الأباطيل التي لفّقتها الفلاسفة بأهوائهم وآرائهم ومقائسهم، فإنّ أباطيلهم التي سمّوها الحكمة لا تُثمِر الخوف من الله، بل تُثمِر الأمن من العذاب، ﻷنها تثمر التطوّر والجبر والتوحيد الأفعالي، بخلاف الحكمة الإلهية فإنها تورث الخوف، وعليها تنطبق الرواية المشهورة: “رأس الحكمة مخافة الله تعالى”).

وفي السّياق نفسه قال المرجع النجفي المرعشي (رحمه الله) -كما في ج1 ص97 من كتاب إحقاق الحق-:

(ليس المراد من الحكمة في الآية الفلسفة التي هي تراث اليونانيّين، بل المراد العلم الذي به حياةُ الأرواح وشفاؤها من الأسقام، وهل هي إلا العلوم الدينيّة الإسلامية والمعتقدات الحقّة وأسرار الكون بشرط اتخاذها عن الراسخين في العلم الذين مَن تمسّك بهم فقد نجى. كيف وعلومهم مستفادة من المنابع الإلهية).

وعليه نرجو أن تخشع قلوبنا عند هذه الآية المباركة: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) حيث فسّر الإمام الكاظم (ع) معنى القلب فيها بالعقل. أي مَن كان له عقل يتذكّر به ذلك الحقّ المخزون في فطرته النقيّة فيستخرجه منها على سلوكه بجهاده لهواه جهادًا لا يخضع فيه لخطوط الضغط ولا لضغط الخطوط.

فهنيئًا لكلّ إنسان مَدَحَه الله على عقله المتحرّك وأثنى على لُبّه المتوقِّد.. فصار يَفهَم الأمور في حياته جيّدًا ويتعامل معها بالصّواب مُسدَّدًا.. لا هو إمّعيٌّ كالببغاء.. ولا هو فحّاشٌ ولا هتّاكٌ ولا سفيهٌ ولا شرّيرٌ ولا كذّاب ولا هو مصدرٌ للفتن ومرتعٌ للنزاعات والإفتراءات…

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
27/محرم الحرام/1438
29/أكتوبر/2016

للاعلى