• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (6)

هل الأكثرية معيارُ حقٍّ لاتخاذ القرار، أو هي صالحةٌ لتكون الدليل على معرفة الحقّ وموضعه ومصداقه؟

هذا ما رَفَضَه القرآنُ الكريم والنبيُّ وأهلُ بيته (عليه وعليهم السلام). لذا يقول الإمام الكاظم (ع) في حديثه لهشام بن الحكم: “ثم ذَمَّ الكثرة” واستشهد (ع) بالآية: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

بل ويؤكّد الإمام على العكس قائلًا: “ثم مَدَحَ القلّة” واستشهد بالآية: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

نعم إذا كانت الأكثرية في جمع الفقهاء وعدول المؤمنين فقط وهم في إطار الشورى بينهم أو التوافق العقلائي -لا الحزبي والفئوي- وذلك لحسم القرارات حول الموضوعات الخارجيّة للأحكام الشرعيّة لا لتحليل حرام الله وتحريم حلاله سبحانه فلا إشكال فيها انطلاقًا من الأحاديث القائلة: “المؤمنون عند شروطهم” و “مَن شاوَرَ الرجال شارَكَها في عقولها” و “أعقل الناس مَن جَمَعَ عقول الناس إلى عقله”.

وهنا إذا امتلك المتخالفان في الرأي أدلّتهما ولم يقتنع أحدهما بأدلة الآخر بعد الحوار والمناظرة، فحينئذ جعل الأكثرية معيارًا للترجيح لا بأس به حسب أمر الإمام الباقر (ع) لتلميذه زرارة: “خُذ بما اشتُهر بين أصحابك” في حديثٍ يعالج به الإمام (ع) إشكاليّة التعارُض والترجيح. وهي مسألة علميّة يتناولها الحوزويّون من مختلف جوانبها.

يقول زرارة: سألتُ الباقر (ع) فقلتُ: جُعِلتُ فداك يأتي عنكما الخبران والحديثان المتعارضان فبأيِّهما آخُذ؟
فقال (ع): “يا زرارة خُذ بما اشتُهر بين أصحابك، ودَعِ الشاذّ النادر.
فقلتُ: يا سيّدي إنهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.
فقال(ع): خُذ بما يقول أعدَلُهما عندك وأوثَقُهما في نفسك.
فقلتُ: إنهما معاً عدلان مرضيّان موثَّقان.
فقال (ع): أُنظُر ما وافَقَ منهما العامّة فاترُكه، وخُذ ما خالَفَه، فإنّ الحقّ فيما خالَفَهُم.
فقلتُ: ربما كانا موافقَين لهم أو مخالفَين، فكيف أصنع؟
فقال: إذن فخُذ ما فيه الحائطة لدينك، واترُك الآخر.
فقلتُ: إنهما معاً موافقان للإحتياط، أو مخالفان له، فكيف أصنع؟
فقال: إذن فتخيَّر أحدَهما، فتأخُذ به وتَدَعِ الآخر”.

وأما الأقليّة الممدوحة فلا لكونها أقليّة وحسب، بل لأنها شاكرة لنعم الله بتوظيفها في مكانها الصحيح.. فإذا فقدت أقليّةٌ من عموم المؤمنين هذا القيد القرآني فلا تكون ممدوحةً حتمًا.

بذلك نعرف أنّ الأكثرية ليست دائمًا على باطل ما دامت بين عدول المؤمنين غير المتحزّبين أو المتمرجعين!!

وهي كآليّة للحسم الإداري قابلةٌ للقبول في حدود مشروعهم الخاصّ بهم وليست لفرض قراراتهم على غيرهم حتى لو كانت على مستوى مشروع سياسي لجماعة لم يتمّ الإتفاق بينهم مع جماعات أخرى. وكذلك الأمر في صفوف المراجع الأجلاء، فإن لم يجتمعوا في شورى فلكلّ واحد منهم اجتهاده ومقلِّدوه.

وكذا الأقلية أيضًا ليست دائمًا على حقّ إلا أن تكون بين عباد الله الشّكور.

وفي كلا الحالَين أن لا تكونا -أي الأكثرية والأقلية- في خلاف شرع الله المنصوص. وهو لا يكون بين المؤمنين أبدًا عدولهم وفقهائهم.

ولعلّ السبب في كون الأكثرية لا اعتبار لها من دون القيد المذكور هو أنّ الباطل حُلوٌ بطبيعته المتلاقية مع طبيعة الإنسان الترابيّة الميّالة إلى الحُلو الدّنيوي المتثاقلة عن تحمُّل الحقّ وشروطه في جهاد النّفس.

نستدلّ على ذلك بما نرى في الأكثرية التي على باطل أنها في حقيقتها أقلّيات متناحرة فيما بينها.. ثم كم من كثرةٍ باطلة كانت في بدايتها قلّة فانتفخت بالدعاية وتورّمت بالإعلام وساعدها على ذلك عنصرُ الزمان. والعكس صحيح أيضًا عندما يبدأ المؤمنون من عدد قليل ثم يتحوّلون إلى أكثرية في مجتمعٍ مّا.

لذا فالآيتان حول الأكثريّة والأقلّية لا تؤسّسان قاعدةً كلّيةً ثابتةً في الأكثريّات والأقلّيات، بل تُبيِّنان بعض مصاديق الكثرة والقلّة في مواجهة الأنبياء أو معاضدتهم على نحو الغالب على أرض الواقع.

وبعبارة أخرى لا تريد الآيتان إرساء قاعدة علميّة ثابتة في ذلك بل تشيران إلى الواقع الخارجي كحالة كانت تسود أكثر المجتمعات والأزمنة تبعًا لحقيقةٍ قالها الإمام علي (ع): “الحقّ مُرٌّ والباطلُ حُلو”.

إنّ هذه البصيرة المستفادة من القرآن والعترة تفرض على الباحثين عن الحقّ مبدأ التجرُّد المَعرَفي كوسيلةٍ مضمونةٍ للوصول إلى الحقّ بعيدًا عن الميول الأهوائية أو الضغوط الأجوائية أو الإنتماءات القوميّة أو المصالح الحزبيّة أو الحسابات السياسيّة أو العواطف الأُسريّة والصداقات العاطفيّة، لأنّ التجرّد عن كلّ ذلك مفتاح الطريق في رحلة الكشف عن الحقّ وبلوغ الحقيقة. وما أكثر الذين انحرفوا عن الحقّ لما أعطوا عقولهم لهذه العوامل البشريّة الضاغطة فجاؤوا يوم القيامة وهم في عِداد المشركين بالله لمّا سلبتهم هذه العوامل عنصر الحياديّة في تقييم الأفكار والأقوال والأفعال.

لقد كان هذا التجرّد ولازال من أصعب القرارات في حياة الإنسان، لأنه الجهاد الأكبر بالفعل. فلا يوجد إنسان تبلورت قناعاته في خارج تلك العوامل الضاغطة إلا مَن كان مُخلصًا لله ومُخلَصًا منه تعالى: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). ولاسيّما في زماننا حيث العولمة الإستكبارية وإعلامها المُمَنهَج بوسائله الساحرة التي أضلّت كثيرين لأجل المصالح الماليّة الكبرى في سوق التجارة والسياسة قد أصبحت هي التي تصنع الأفكار والتوجّهات والتكتّلات وتقود الرأي العام بدلًا عن السّماح للعقل المحايد من قيادة الناس في جوّ الحرّية الحقيقيّة.

وهذه هي الحلقة المفقودة حتى في أفضل الدول الديمقراطية – كما يسمّونها- وهي ليست سوى ديمقراطية التحالفات لأهل الباطل الموجَّهة عبر مَن يملكون منهم المال الأكثر للسيطرة على مساحات أكبر في شؤون العباد والبلاد. وتلعب وسائل الإعلام التي بأيديهم السلاح الأمضى للسيطرة على الجمهور بلطايف الحِيَل في طريقهم إلى استضعافهم للهيمنة الإقتصادية والعبوديّة لرأس المال ورؤوس الأغنياء.

في زحمة هذه الصّراعات -التي تدور فيها المجموعات الكبيرة والصغيرة والأكبر والأصغر- لا يوجد صوتٌ حقيقيٌّ للحقّ نظرًا للطبيعة الترابيّة التي أشرنا إليها والتي يتقاسمها جميع المصابين بالخمول العقلي نتيجة تهميشهم لهذه النعمة منذ البداية وعبر توارث الأجيال بلا تفكير.

فالأكثرية إذن ليست معيارًا ثابتًا للحقّ كما الأقلّية أيضًا إلا ما كان منهما في ظلّ الشروط الآنفة الذّكر.

وهنا ليس من المهمّ أن يكون المؤمنون قلّة، إذ قال ربّنا -عزّ وجل- في المؤمنين السابقين: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وهذا ما أراده الإمام علي (ع) من قوله: “لا تَستَوحِشوا طريقَ الحقّ مِن قلّة سالِكيه”.

وتدعم هذا المعنى الروايات الداعية إلى معرفة الحقّ بالحقّ نفسه لا بالرّجال. لأن الحقّ ثابت والرّجال متقلّبون.

هذه القضية دقيقة للغاية، ولها أهميتها البُنيَويّة في البحث حول محورَي الهداية والضّلال ومسألتَي الحقّ والباطل والصحيح والخطأ، وهي قضية محلّ ابتلاء الناس في زماننا كما في الأزمنة السابقة.

فالذي يريد تحرير عقله يجب عليه أن لا يسمح لتلك العوامل وخاصةً للأجواء الإعلامية -الفضائيات ومواقع التواصل الإجتماعي مثلًا- أن تجرف به إلى صنّاعها الماكرين أو الغافلين أو المغفَّلين ومَن ينشرون الأكاذيب ويشوّشون صفو النفوس لشلِّ التفكير الهادف والهادي…

وهكذا فإن كنتَ جادًّا في تحرير عقلك قاوِم هذه الموجة بعقلك المتفكّر وتحرّر من هواك، ولن تستطيع إلا بطلب العون من الله جلّ جلاله وبالإلحاح والتضرّع إليه كيلا يَكِلَك إلى نفسك طرفة عينٍ أبدًا.

لهذا يوجّهنا الإمام الكاظم (ع) في وصاياه لنكون عقلانييّن بخالص النوايا لله تعالى فإنّ أيّ شيءٍ آخر لا ينفعنا في يوم القيامة.

فلنكن ممن حثّهم الإمام (ع) على التحلّي بصفات العقلاء قائلًا: “ثُمَّ ذَكَرَ -أي الله عزّ وجل- أولي الأَلبابِ بأحسَنِ الذِّكر وحلّاهُم بأحسَن الحِلية”.

أما تريد الآن أن تكون من هؤلاء؟!

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
25/محرم الحرام/1438
27/أكتوبر/2016

للاعلى