• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (5)

في حديثٍ طويلٍ للإمام الكاظم (ع) شَرَحَ لصاحبه هشام بن الحكم دور العقل في فهم الدّين وتعاضدهما في الإرتقاء بشخصيّة الإنسان النوعيّة، يؤكد فيه الإمام (عليه السلام) على مرجعيّة العقل الشرعي في وعي العقائد الدّينية مستعرضًا 29 آيةً حيث ختمت رؤاها بكلمات مثل: (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وما أشبه.

على ضوء هذا الحديث الشريف نقول إذا عَقَلَ الفرد وتَفكّر فآمَنَ بالعقائد (كوجود الله ووحدانيّته، والنبوّة والإمامة، واليوم الآخر) فقد دلّه هذا العقلُ نفسه أيضًا على الإيمان الكُلّي بالأحكام الفقهيّة والآداب الأخلاقيّة باعتبارها صادرة عن هذا الإله العليم الحكيم، فلا يشكّك نفسه بعدئذ ولا يناقش في الدّين بقصد الردّ والإستكبار. مَثَلُه كمَثَل الذي إذا اقتنع بجدارة طبيبٍ سيقبل منه علاجه مُغَمَّض العين.

لذلك قال الفقهاء أنّ على المكلَّف الإعتقاد بأصول الدّين وفق الدّليل والبرهان، ولكنّه في فروع الدّين يكفيه تقليد المرجع الأعلم. ولعل السبب أنّ الأحكام الدينيّة من الغيبيّات ولا سبيل للعقل إليها وإنّما الوحي. ولعل السبب الآخر هو اختبار طاعة الإنسان لله تعالى.

(ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ…)

بهذه القراءة سيبطل القول بتنافر العقل والدّين. وإنما يتنافر معه “الرأيُ الشخصي” و”الذّوق” و”الإستحسان” و”القياس” الذي يسمّيه الجاهل عقلًا. وهو قد يكون مثقفًا أو عالم دينٍ عندما يورّطان أنفسهما في هذه الموهومات الأربعة. وهي مصدر أكثر الإنحرافات والخلافات حول المسائل الدينيّة والشعائر الحسينيّة. بينما العقل في هذا الدّين العظيم هو ما عرّفناه على ضوء القرآن وكلام النبيّ وعترته أهل بيته. وهم أولى من غيرهم ببيان الدليل إلى هذا الدّين الحق. لذا ورد عن النبيّ (ص) في حديث قُدسيّ: “أنّ الله جلّ جلاله قال: ما آمَنَ بي مَن فَسَّرَ برأيه كلامي”.

فعند القيام بتحرير عقلك من هواك -وكغيرك ممن يقرّر هذا القرار البطولي الشّهم- تحتاج إلى وعي البصيرة المذكورة كحاجتك إلى العناصر الأربعة التالية:

* ألف.. الوعي: وذلك بالقراءة والإستماع.

* باء.. التفكُّر: وذلك بالتأمُّل والتدقيق.

* جيم.. التعبُّد: وذلك بذكر الله والخشية من حسابه وعقابه.

* دال.. التّقوى: وذلك بتجنُّب الذّنوب والمعاصي.

ويكون انعدام العنصر الرابع (التقوى) بتغييب العناصر الثلاثة قبله. وهو ما ورد في دعاء أميرالمؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل، حيث ذَكَرَ (عليه السلام) أنواع الذّنوب وآثار كل ذنب على مرتكبه. ويدعم ذلك ما جاء في الحديث: (إذا أذنَبَ العبدُ مَجَّ عقلُه مَجّا).

و(المَجَّ) في اللّغة يعني الرّمي، فالمعنى أنّ الذي يذنب يرمي عقله ويتخلّى عنه ويلفظه.

من هنا إذا رأيتُم إنسانًا تائهًا على سراب الغباء والحماقة والتصرّفات الصبيانيّة.. حتى لو كان في زيّ العلماء أو كان من المثقفين لا تستغربوا. فإنما يكشف عن مستوى عقله حيث لم يدرّبه بالقراءة، والتفكّر، وبذكر الله، وتجنُّب الذنوب.

هذه حالة أكثر الناس في زماننا.. يعملون صالحًا وآخر سيِّئًا حسب الأهواء.. مرّة مع الله ومرّة مع الشيطان. هؤلاء لم تنضج عقولهم ويبقون صغارًا دائمًا حتى لو كبُرت أعمارُهم أو كبّرتهم دعايات وسائل الإعلام.

فلكي تحذر من أن تكون منهم تأمّل جيّدًا في بقيّة وصايا الإمام الكاظم (ع):

“يَا هِشَامُ! مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ؛ مَنْ أَظْلَمَ نُورَ فِكْرِهِ‏ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ”.

إعرِف هذه الحقائق لتعرف جذور المشاكل التي تعكّر صفو حياتك. بهذه المعرفة إنهض لمواجهة ما يدمّر دينك ودنياك، فإنك إن لم تتحرّك الآن يوشك أن تنتهي أنفاسك في هذه الحياة فتتفاجأ بحساب القبر وما بعده وأنت يمكنك التخلّص منه قبل موتك المحتوم…

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
24/محرم الحرام/1438
26/أكتوبر/2016

للاعلى