• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (3)

في زمن الحيرة والتذبذب والضّياع ونزيف الإنقسامات والصّراع.. كيف نميّز بين الحقيقة والخرافة وندرك بأنّ هذا من الدّين الحقّ وهذا من الدّين المزيَّف؟

المفتاح الحلّ بيد العقل الذي في داخلك.. فهلّا أعطيتَه دوره في فحص المعلومات الواردة إليك كدور ملكة النّحل التي تفحص أفراد خليّتها العائدين إليها قبل دخولهم مملكته وإفسادها بالسّموم إن وقعوا على غير الزّهور الطيّبة.

إنّ هذا هو دور العقل الطبيعي الذي أراده الله لنا لما رَكَّبَه فينا ليميّزنا عن البهائم التي اختارها أكثر الناس أسوةً وقرّروا أن لا يتميّزوا عنها إلا في الشّكل!!

يقول الإمام علي (ع): “اِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِى الْمَلائِكَةِ عَقْلاً بِلا شَهْوَةٍ وَ رَكَّبَ فِى الْبَهائِم شَهْوَةً بِلا عَقْلٍ وَ رَكَّبَ فى بَني آدَمَ كِلَيْهِما، فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِن الْمَلائِكَةِ وَ مَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْبَهائِمِ”.

ولكن ما هو العقل؟
وكيف نحرّره ونحن لا نعرفه؟

ما يُستفاد من القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) أنه:

{نورٌ مِن عطاء الله على روح الإنسان أفاضه على قلبه ليكشف به صاحبُه موارد الحُسن والقُبح في الحياة ويختار على ضوئه السّلوك المرضيّ عند الله}

إلا أنّ للعقل درجات في القوّة والنّشاط والضّعف والخمول، فمن أين يكون السبب في ذلك؟

يصل العقلُ مرحلةَ الفعليّة في قوّته ونشاطه حينما يغذّيه صاحبه من العلم النافع فتعلو درجة الكاشفيّة فيه للمجهولات وصياغة المواقف من الأمور. ولكنّه لو أخذ من العلم الضارّ وتغذّى من المعلومات الفاسدة سينحدر بجهله نحو كل رذيلة حسب مستوياتها.

هذا ما أفادت به الآية الكريمة: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ). ومن هنا كان حثّ الإسلام على طلب العلم النافع فقط، واحترام العلماء الصالحين فقط، والقراءة باسم ربّك فقط.. نعم والإستمرار في ذلك من المهد إلى اللّحد.

إنك إن عرفتَ هذه البصيرة وتعرّفتَ بها على عقلك -وهو حجّة الله عليك- ستنجو يقينًا من الجزّارين الذين كَثُروا اليوم في مجتمعاتنا بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم الجارحة والهاتكة والقاتلة، ويظهر بعضهم على شاشة التلفاز يخدع الذين لا يعقلون فيحوّلهم إلى خرفان تُسحَب إلى مصاقل الصراعات الجاهلية والإستنزاف كما يطلبه أعداء الإسلام ويريده الشيطان.

ولكن السؤال كيف نقوّي العقل بداخلنا ونستثمر هذه النّعمة الإلهيّة لنتخلّص من الخرافة والسقوط في الفخّ؟

نرى الجواب عبر هذه الرسالة الوجيزة في مسألتَين:

* الأولى.. ضرورة تنقية مصادر المعرفة، والتفكير حين تلقّي المعلومات.

فعلى صعيد العلماء والخطباء، إعلم أنّ كلّ مدرسة من مدارس الحوزات العلمية لم تنقل الطالب من دروسه الوَرَقِيّة إلى مرحلة النّضج العقلي لن تكون مدرسةً مؤهَّلةً لخدمة الدّين الحقّ.

لذا يجب أن نختار نوع العلم الذي ندرسه إن كان يُنضِج عقولنا لنُنتِج بها مواقف من جنس الحكمة والأخلاق والعقلانيّة، أم يصنع منّا خطباء الفتنة وأبواقًا للسبّ واللّعن وتأزيم أوضاع المسلمين؟!

قبل 20 عامًا حينما كنتُ أريد تزويد الطبعة الجديدة لكتابي (قصص وخواطر) بقصصٍ جديدة زرتُ أحد العلماء المعروفين (رحمه الله) وكنتُ أراه أيّام دراستي في النجف الأشرف -فترة السبعينيات-، فابتدأ كلامه لي بقصة خرافيّة يضحك عليه حتى الطفل الصغير. فقِستُ بها عقلَه ثم لم أسئله عن قصة أخرى!!

تذكّرتُ حينه قول النّبي (ص): “ﺇﺫﺍ ﺑَﻠَﻐَﻜُﻢ ﻋﻦ ﺭﺟﻞٍ ﺣُﺴﻦ ﺣﺎﻝ ﻓﺎﻧﻈُﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﺣُﺴﻦ ﻋﻘﻠﻪ، ﻓﺈﻧّﻤﺎ يُجازى ﺑﻌﻘﻠﻪ”.

فلابدّ لنا أن نعرف إذن بأنّ العلم الدّيني شيءٌ والنّضج العقلي شيءٌ آخر. وأنّ العمامة ليست علامة للعالِم الناضج عقليًّا والسّوِيّ عمليًّا.

هذا ما ينبغي للناس أن يعرفوه كيلا يلغوا عقولهم عن التفكير وينساقوا خلف كلّ ناعق. ولا فرق هنا بين معمّمٍ ومثقف وبين رجلٍ وإمرأة وبين مسلمٍ وغير مسلم. لأننا في زمن عولمة الثقافات البشريّة واستهداف تقدّم الإسلام واختلاط الأوراق يجب أن نَفطِن الكياسة وإلا صرنا حميرًا لحمل مآرب الآخرين من حيث لا نعلم…

* الثانية.. ضرورة الإعتقاد بقيمة العقل وأهمّيته في حياتنا. وهو ما يوفّره لنا مثل هذا الحديث النبويّ الشريف: “ﻣَﺎ ﻗَﺴَﻢَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺷَﻴْﺌًﺎ ﻟِﻠْﻌِﺒَﺎﺩِ ﺃَﻓْﻀَﻞَ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻌَﻘْﻞِ ، ﻭَﻧَﻮْﻡُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺳَﻬَﺮِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻗَﺎﺋِﻤًﺎ ، ﻭَﺭَﺍﻛِﻌًﺎ ، ﻭَﺳَﺎﺟِﺪًﺍ ، ﻭَﺇِﻓْﻄَﺎﺭُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺻَﻮْﻡِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻃُﻮﻝَ ﺍﻟﺪَّﻫْﺮِ ﺳَﺮْﻣَﺪًﺍ ، ﻭَﺇِﻗَﺎﻣَﺔُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺷُﺨُﻮﺹِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﺣَﺎﺟًّﺎ ﻭَﻣُﻌْﺘَﻤِﺮًﺍ ، ﻭَﺗَﺨَﻠُّﻒُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺳَﻔَﺮِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻓِﻲ ﺳَﺒِﻴﻞِ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﻏَﺎﺯِﻳًﺎ ، ﻭَﺿَﺤِﻚُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞُ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺑُﻜَﺎﺀِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ، ﻭَﺭُﻗَﺎﺩُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦَ ﺍﺟْﺘِﻬَﺎﺩِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ، ﻭَﻟَﻢْ ﻳَﺒْﻌَﺚِ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻧَﺒِﻴًّﺎ ﻭَﻻ‌ ﺭَﺳُﻮﻻ‌ ﺣَﺘَّﻰ ﻳَﺴْﺘَﻜْﻤِﻞَ ﺍﻟْﻌَﻘْﻞَ ، ﻭَﻛَﺎﻥَ ﻋَﻘْﻠُﻪُ ﺃَﻓْﻀَﻞَ ﻣِﻦْ ﺟَﻤِﻴﻊِ ﻋَﻘْﻞِ ﺃُﻣَّﺘِﻪِ ﻳَﻜُﻮﻥُ ﻓِﻲ ﺃُﻣَّﺘِﻪِ ﻣَﻦْ ﻫُﻮَ ﺃَﺷَﺪُّ ﻣِﻨْﻪُ ﺍﺟْﺘِﻬَﺎﺩًﺍ ﺑِﺒَﺪَﻧِﻪِ ﻭَﺟَﻮَﺍﺭِﺣِﻪِ ، ﻭَﻣَﺎ ﻳُﻀْﻤِﺮُ ﻓِﻲ ﻋَﻘْﻠِﻪِ ﻭَﻧِﻴَّﺘِﻪِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﻋِﺒَﺎﺩَﺓِ ﺍﻟْﻤُﺠْﺘَﻬِﺪِﻳﻦَ ﻓَﻤَﺎ ﺃَﺩَّﻯ ﺍﻟْﻌَﺒْﺪُ ﻓَﺮَﺍﺋِﺾَ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﺣَﺘَّﻰ ﻋَﻘَﻞَ ﻋَﻨْﻪُ ، ﻭَﻻ‌ ﺍﻧْﺘَﻬَﻰ ﻋَﻦْ ﻣَﺤَﺎﺭِﻣِﻪ ﺣَﺘَّﻰ ﻋَﻘَﻞَ ﻋَﻨْﻪُ ، ﻭَﻻ‌ ﺑَﻠَّﻎَ ﺟَﻤِﻴﻊُ ﺍﻟْﻌَﺎﺑِﺪِﻳﻦَ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻔَﻀَﺎﺋِﻞِ ﻓِﻲ ﻋِﺒَﺎﺩَﺗِﻬِﻢْ ﻣَﺎ ﺑَﻠَّﻎَ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞُ ﻋَﻦْ ﺭَﺑِّﻪِ ،ﻭَﻫُﻢْ ﺃُﻭﻟُﻮ ﺍﻷ‌َﻟْﺒَﺎﺏِ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻗَﺎﻝَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻓِﻲ ﺣَﻘِّﻬِﻢْ: (ﻭَﻣَﺎ ﻳَﺬَّﻛَّﺮُ ﺇِﻻ‌ ﺃُﻭﻟُﻮ ﺍﻷ‌َﻟْﺒَﺎﺏ)”.

نفهم من هذا الحديث أنّ قليل العمل بعقلٍ خيرٌ من كثيره بلا عقل، وأنّ التركيز يجب أن يكون على النوعيّة والجودة والإتقان، وأنّ العاقل لا يغريه المظهر والشعارات والدعايات وكثرة الصور والإدعاءات!!

فأيّ شيءٍ يطرق آذاننا يجب أن ندرس محتواه جيّدًا ثم نقرّر قبوله أو رفضه أو التوقّف عنه حتى يأتينا الخبر اليقين.

وهذا من النّضج الذي يصنعه العقل والعلم والدّين، فندفع به الخرافة والزّيف ونتقرّب به إلى الله تعالى بالدّين الصحيح.

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
22/محرم الحرام/1438
23/أكتوبر/2016

للاعلى