• مِن الآن:

ساهِم في تحرير عقلك…

الرسالة (2)

• ليس العقل هو ما يخطّط به البعضُ لباطله ويخدع به الناس في ثوب الحقّ، إنّما هذا هو (النّكراء) هو (الشيطنة) الملبوس بثوب العقل كما يسمّيه الإمام الصادق (ع) في جوابه على سؤال الرّاوي: ما العقل؟
قال (ع): “ما عُبِدَ به الرّحمنُ واكتُسِبَ به الجنان”.
قال: فالذي كان في معاوية؟
فقال (ع): “تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل”.

ولعلّ التسمية بالنّكراء نظرًا إلى أنّ الشخص هنا يتنكّر للعقل باتباع ما يمليه عليه هواه.

البعض يمارس النّكراء والشيطنة وهو عالمٌ بما يمارسه من خبثٍ وباطل. ولكن الأخطر هو مَن يمارس ذلك وهو يعتقد نفسه بالفعل على الحقّ!!

وهذا ما يسمّى في علم المنطق بالجهل المُرَكَّب. وهو المصيبة التي يتقلّب فيها أكثر الناس -وبعض العلماء والمثقفين- إذ لا يعلمون أنهم لا يعلمون، لذلك فلا يرون أنفسهم في حاجة إلى مراجعة النفس والتحقيق فيما يصلهم من معلومات والتأكُّد من صحّتها وسقمها والآثار المترتّبة عليها.

إنّ الإنسان في هذه الحالة -حالة الجهل المُرَكَّب- سيجمد في جهله وهو لا يدري، ويعاند متوهِّمًا إستغناءه عن العلم وتجديد الوعي. وهذا أساس الكثير من الجدل العقيم والمراء الذي لا ينتهي إلى نتيجة سوى الدّوَران حول الذّات واجترار القناعات المُسبَقة.

أمّا الحلّ فهو أن يقرّر الفرد مع نفسه على مبدءٍ ثابت عنده، وهو أن يكون متواضعًا في كلّ حال. وبالتالي ينفتح على كلّ معلومة وخاصّةً إذا كانت تتعلّق بمن يخالفه، فيستمع بلا تعصّب ثم يتفكّر في أدلّته بكلّ حياديّة وموضوعيّة، فإن كانت صائبة أخذ بها، وإلا ازداد على يقينه بما عنده، فكلا الطرفين في صالحه. وهذا هو ما تريده الآية التي خاطبت الرسول (ص): (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) وهي خطابٌ إلينا لنفتح نوافذ عقولنا على كلّ الأقوال بحثًا عن الأحسن بينها، وإلا فالنبيّ أعلم الكائنات بعد الله تعالى ولا حاجة لديه للزيادة سوى دعاءه.

وتفيد الآية مفهوم التطوير في آليات المعرفة واكتشاف الجديد منها على نحو الإستمرار. وتؤيدها هذه الآية الأخرى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ). وفيها أنّ الهداية الإلهيّة إنما يتلقّاها صاحب اللّبّ.. واللّبّ هو العقل. والعكس صحيح. بمعنى أنّ الذي لا عقل له لا هداية له!!

بهكذا نظرة يجب أن تساهم في تحرير عقلك من الجمود وترفض كلّ آفةٍ تسلبك الحركة العلميّة وزيادة المعرفة.

ومن هنا كان العُجب بالرأي من الممنوعات في الإسلام، لأنه يؤدّي إلى تجميد حركة العقل وهو مدعاة للإستبداد بما يراه الفرد لنفسه وفرضه على غيره، وهذا ما يجعله والآخر في نزاعٍ وصِدام وعِراك وشِجار كما هو الحال الذي تشهده المجتمعات، بينما سيرة العلماء والعقلاء والحكماء قائمةٌ على البحث المفتوح عن الحقيقة في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ مكان حتى ولو اقتضت استبدال الرأي بآخر بعد استتمام الأدلة واستحضار الشجاعة.

بهذه المناسبة ذكرنا في كتابنا (قصص وخواطر) أنّ المرجع الراحل الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة في قم المقدسة، كتب جواب مسألة استفتاها منه أحدُ مقلِّديه. ولكنه قبل إرسال الجواب زار مرجعًا آخر فعرض عليه السؤال، فوجد جواب هذا المرجع أقوى من جوابه، فقال لمراسله فورًا ناولني الرسالة، فأخذها واستبدل جوابه بما استفاده من ذلك المرجع في ظلّ الدّليل الأقوى. وكما يُقال: (نحن أبناء الدّليل، نميل حيثما يميل).

ففي مثل هذه الأخلاقية الإنسيابيّة التي تسمّيها الروايات “لين العريكة” سوف تنمحي من الفرد والمجتمع مواقفُ التعنُّت وتصنيم الأنا والعُجب بالنفس وغرور التحدّي وعصبيّات الجاهلية والمكر في الإلتفاف حول الحقيقة والإستبداد بالرأي. وهذه كلّها من الرذائل التي عطّلت حركة العقل عند أكثر الناس والأحزاب السياسية والحكومات الظالمة وبعض المثقفين وعلماء الدّين.

كم يفتقر هؤلاء إلى تحرير عقولهم، فإنه لو تحرّر العقل لديهم وصار يمارس دوره الحقيقي كحُجّة الله في باطن كلّ إنسان لصارت علاقاتُهم جُنّةً عن الشرّ وحياتُهم جَنّةً بكلّ صُنوف الخير.

إذا عرفتَ هذه الرسالة فقد عرفتَ قول الإمام الرضا (ع) هذا: “صديقُ كلِّ امرئٍ عقلُه، وعَدُوُّه جهلُه”.

وبيان هذا التلازم “وعَدُوُّه جهلُه” إنما للتأكيد على ضرورة الفرار من الجهل كفرارك من عدوّك، ووجوب الإلتجاء إلى العقل كلجوئك إلى صديقك.

• أُنشُر…
لتساهم في تحرير العقول وحلّ الأزمات.

مع تحيّات:

عبدالعظيم المهتدي البحراني
21/محرم الحرام/1438
22/أكتوبر/2016

للاعلى