واجباتٌ وآداب
في تعظيم الشعائر الحسينية

بيان سماحته حول الموسم الحسيني لعام 1438 ويتمّ نشره اليوم (يوم المباهلة الشريفة) ليستفيد من مضامينه المهمّة مَن يهتمّون بإحياء أمر النبيّ الكريم والأئمة الأطهار (ع) والله المستعان.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمُ

اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وعلى أخيهِ العبّاس، وأخِتهِ الحوْرَاءِ زَيْنبْ، وعلى أصحَابِه والمُلبّينَ لِنُصرَتِه في كُلِّ زَمان ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه.

قال الله -عزّ وجل-: (ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

كيف تكون الشعائر الحسينية من شعائر الله تعالى؟

كلُّ فعلٍ في إطار الحلال المنصوص عليه في الروايات الشريفة وكذلك المباح غير المنصوص يكون مُشعِرًا بما يُرضي الله من قِيَم التقوى والطاعة والإخلاص والأخلاق فهو شعيرةٌ من شعائر الله تعالى، لأنه مما يحبّه الله فيك ويدلّك على رضاه عنك.

إنها مجرّد ناقة ارتبط إسمها بقضيّة الصّراع بين النبيّ صالح وقومه الفاسقين فأطلق عليها القرآنُ إسم: (نَاقَةَ اللَّهِ) فكيف بالحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قال: {إنّ الحسين مصباح الهُدى وسفينة النجاة} وهو الإمامُ إبنُ الإمام أخُ الإمام أبو الأئمة التسعة الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).. خليفةُ الله في أرضه وأمينُه بين خَلقه والدّاعي إلى دينه والمُحامي عن شريعة الخير والعدل والحرّية والسّلم والمحبّة؟!

لا والله ما كان الحسين ثار الله بأهوَنِ على الله من ناقة صالح التي دمدم الله على الظالمين (بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)!!

هذا أقلّ الدّليل القرآني على أنّ كلّ فعلٍ يصطبغ بالصبغة الحسينية فهو من صبغة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).

وإنّما تعي هذه البصيرة القرآنية قلوبٌ أضاءها نورُ التقوى، لأنّ تلك الشعائر (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وأما القلوب المظلمة بالجهل والرَّيب وحُبّ الشّهوات فلن يدخلها نور التقوى فلا تعي الحسين وشعائره الدالّة على منزلته الإلهيّة وعظمتِه الإيمانيّة ونهضتِه الربّانيّة وقيمة الدّمعة الساكبة على مصائبه التي بكت عليها السّماوات دمًا والأرضون عبيطًا…

* وأما بعد:

ما هي أهمّ واجباتنا في تعظيم الشعائر التي نُحييها سنويًّا باسم الإمام الحسين وذكرى عاشورائه الدّامية؟

نشير هنا إلى خَمس واجبات وبعض الآداب، وكلّي رجاء من الإخوة والأخوات أن يهتمّوا بها على الصعيد الفردي والجمعي للإرتقاء نحو مستوى القيم الإسلامية التى أرادها الإمام الحسين (ع) للمسلمين والبشريّة:

* الواجب الأول..

(معرفة العقيدة وصيانتها الدَّوريّة)

يجب تحويل المجالس الحسينية إلى فرص التزوّد من الوعي بالعقائد الإسلامية، فعلى الخطيب أن يختار مواضيعه في العناوين التأسيسيّة لبناء الشخصية الناجحة دنيويًّا وأخرويًّا.. فهناك الكثير من المستمعين يفتقرون إلى مفاهيم الإسلام في توحيد الله وصفاته والهدف من الوجود وردّ شبهات الملحدين الذين ظهروا اليوم حتى بين أساتذة الجامعات فضلًا عن أفلام الكارتون للأطفال.

وكذلك بيان مفاهيم الإسلام حول النبيّ والنبوّة والإمام والإمامة وصفات العالم الربّاني.. وحول الموت والقبر وحساب الآخرة والجنة والنار. كلّ ذلك لابدّ من شرحه بالدّليل الفطري والعقلي والعلمي والنقلي مدعومًا بالقصص وذكر الأمثلة الحيّة وبلغةٍ مفهومة لعموم الناس.

ينبغي للخطباء الحسينيّين إعداد بحوث حول هذه المسائل وكذلك فيما يحتاجه المستمعون من وعي الحقوق بين الزّوجين والثقافة الأُسَريّة وتربية الطفل والأخلاق الفرديّة والإجتماعيّة وقضايا النظافة العامّة والصحّة النفسيّة والبدنيّة وتدبير الوظيفة والمعيشة ومخاطر التبرّج والعلاقات الجنسيّة المحرَّمة…

ومن الأبحاث المهمّة أيضًا.. شرح روايات العقل والجهل وصفات العاقل والجاهل وآثار كلٍّ منهما في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، ودورهما في المؤسسات التجاريّة وإدارة شؤون الدولة ومواقف المعارضة. فكم من عاقلٍ سعى للخير، وكم من جاهلٍ ساهَمَ في الشرّ!!

* الواجب الثاني..

(دمج العاطفة والعمل)

لم تكن العواطف في الإسلام مفصولةً عن العمل بأحكامه.. فليس من الصّواب إشباع الفكر العاطفي وإهمال الدعوة إلى العمل. إنّ دينَ محمدٍ وآل محمد هو دين الإيمان الصادق والعمل الصالح.. دين المودّة لذي القربى والتزام التقوى.. دين البكاء على مصائب العترة المحمّدية واتخاذ تعاليمهم الأخلاقية مَسلَكاً للحياة.. دين القلب المُحِبّ والدّمعة الجارية مشفوعةً بالموقف المسؤول عائليًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وتجاريًّا.

إنّ هذا الدّمج بين الوجدانيّات الجيّاشة وبين التصرّفات الجذّابة يشكّل الغاية الإلهيّة من إحيائنا للشعائر الحسينيّة.. فلا يُقبَل من شيعيٍّ يبكي للحسين ويبغض شيعيّاً آخر يبكي للحسين أيضًا، ولا أن يلطم صدره ويظلم أخاه، ولا أن يخدم في مضيف الإطعام الحسيني وينظر إلى النساء أو يصرخ ويهين، ولا أن يحضر المأتم ويعود منه إلى البيت ليسيء خُلقَه مع زوجته وعياله ويغتاب وينمّم ويكذب ويتهم.

واجبُ كلّ مَن يحبّ الحسين (ع) أن يغيّر نفسه ويتوب إلى الله ويستغفر، وأن يتعلّم الأحكام الفقهية لعباداته ومعاملاته.

ينبغي للخطيب الهادف أن يستثمر مناخ هذا الشهر، كلّما انفتحت عواطف الناس على الإمام الحسين ألقى فيها بذور الإحساس بالمسؤولية ويقوّي في نفوسهم إرادة العمل وتطوير الذات.

* الواجب الثالث..

(التأسّي بمحمدٍ وآل محمد)

يجب أن نراجع تصرّفاتنا هل هي مَرضِيّةٌ عند الله أم لا.. لأن رضا الله هو الأساس وكلّ ما سواه سراب.. فكيف نعرف أنها مَرضِيّة عنده تبارك وتعالى؟

ذلك متى ما كانت مطابقةً مع سيرة النبيّ وأهل بيته. وهذا الأمر يحتاج منّا أن نعرف تلك السيرة المضيئة لنتأسّي بهم فيها.. نقرأها بصورةٍ جيّدة أو نسمعها بأُذُنٍ واعية ثم نتدرّب لإتقان تطبيقاتها الخارجية.

شهر محرّم الحسين (ع) تُوفِّر لنا أجواءُه الخصبة دوافعَ النهوض إلى صياغة حياتنا وفق المبادئ الإسلامية الأصيلة التي ارتضاها الله لنا ورسوله وأوصياؤه.

فلنأخذ قدر المستطاع من إخلاصهم وأخلاقهم وطريقة عباداتهم وتعاملهم مع الصّديق والعدوّ، ومن حكمتهم في تصنيف الأولويّات في مواقفنا.

* الواجب الرابع..

(إظهار الإنتماء إلى الحقّ)

الإنتماء القلبي لآل النبيّ الذين أذهَبَ اللهُ عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرًا واجبٌ عينيّ على كل فردٍ فرد.. ولكن إظهار هذا الإنتماء واجبٌ كفائيٌّ عليه تبعًا للظرف المكاني والزّماني الخاضعَين لموارد التقيّة وعدمها وحيثيّاتها. إلا أن الأصل يبقى هو الإظهار للإنتماء وبفخرٍ واعتزاز.. فلا يخشى المسلم الشيعي أن يباهي بهذا الإنتماء، فهو مصداق من مصاديق الشعائر الولائيّة التي فرضها الله علينا لنبيّه الكريم وأهل بيته الطاهرين خاصة، حيث قال سبحانه: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ).

ولا شك أنّ هذا الإظهار حقٌّ.. ويلازمه إعلان البراءة مما يقابله من الباطل، وهذا هو التحدّي الكبير الذي ينجح فيه مَن نَضَجَ عقلُه فأوتي من الحكمة خيرًا كثيرًا. ومَن كان كذلك لا يكون شتّامًا سبّابًا لعّانًا بذيئًا فحّاشًا ساخرًا متحدّيًا بغِباء!!

والأقبح الذي يصل حدّ الإجرام إذا مارَسَ الأغبياء تلك الحماقات في الفضائيات المفتوحة على الجميع فقدّموا باسم (البرائية الرافضية) مزيدًا من الذرائع لتمزيق الشيعة من جهة وسفك دمائهم من جهة أخرى، وهم مستضعفون في مناطق التَّماس لا حول لهم ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم!!

لذلك وجبت الدقّة في هذا البُعد من حالة الولاء المقدّس والرفض الذي هو عنواننا البرائيّ المقدّس ولكن لا بطريقة الشاذّين المُسيئة لصورة المذهب الذي أمرنا صاحبُه قائلًا: “إتّقوا اللهَ وكونوا زَينًا ولا تكونوا شَينًا، جُرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح”.

وهذا يفرض على الموالين أن يمنعوا محاولات كلّ متطرّفٍ سفيهٍ للتسلّق بالشعائر الحسينية لبلوغ فتنته بينهم.

* الواجب الخامس..

(توريث الإستقامة للأجيال)

في شهر محرّم الحسين السّبط الشهيد بكربلاء يجب زرع الثقافة الحسينية في أطفالنا لتوريثهم هذه الأمانة الغالية…

فعلى الآباء والأمهات وكل الكبار الذين وعوا هذه القضية المقدَّسة وكذلك الخطباء والإعلاميّين الذين أخذوا دور التوجيه تقع مسؤولية الإهتمام الخاص بتفهيم الأطفال قصة عاشوراء من الألف إلى الياء. ولابد من الإبداع لجذب الأطفال إلى الشعائر الحسينية الواعية والهادفة حسب لغتهم العصريّة.

هذه من وصايا أهل البيت (ع) لشيعتهم، فلا أحد يتهاون في تربية طفله على حُبّ محمدٍ وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين.. ولا أحد يتساهل في توعية الأطفال معنى الشعائر وحضور المجالس والمواكب واحترام الموسم بلبس السّواد كشعارٍ للحزن على ما أصاب آل محمد من ظلمٍ تأبى النّفوس الأبيّة نسيانه والتفرّج عليه.

بهذا الأسلوب نصنع الإستقامة في أبنائنا كما صَنَعَها آباؤنا فينا وصَنَعَها أجدادنا فيهم وسيصنعها الأبناء في الأحفاد.. وتستمرّ في عروقنا وتتجلّى في إراداتنا وتتحرّك في قراراتنا حتى يخرج حفيده الإمام المهدي (أرواحنا فداه) ونحن قد أثبتنا لجدّه الأكرم (ص) وآبائه المكرمين ولاءنا ووفاءنا وصدقنا في البيعة التي بايعناهم على الطاعة لنصرة دين الله الحقّ.

قال الإمام الصادق (ع): “لو أنّ شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلّهم الغمام، ولأشرقوا نهارًا، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئًا إلاّ أعطاهم”.

* وفي الخاتمة:

1/ لا تُفوِّتوا على أنفسكم بركات هذا الشهر بالإشتغال في الخلافات التي تسرّ شياطين الجنّ والإنس.

إنّ الذي يحترم عقله لا يخوض فتن القيل والقال. وإنّ الذي يحترن مصائب وآلام أئمّة أهل البيت وما يجري اليوم على شيعتهم من مِحَنٍ وأزمات تهدّ منها الجبال لا ينحدر إلى التفاهات وأكل لحوم المؤمنين، ولا كأنّ الإسلام حرّم التفرقة واغتياب إخوة الإيمان.. ولا كأنّ الحلّ لبعض الخلافات الفقهية (في الشعائر خاصة) يكمن في احترام حرّية التقليد للمكلّف الآخر وعدم فرض رأي مرجعٍ على مكلّف مرجعٍ آخر!!

2/ لا تجعلوا حضور المضائف لإشباع البطون يغلب حضوركم داخل الحسينيات لإنضاج العقول، ولا تستبدلوا المشاركة في المواكب العزائية وتقويتها وكسب الأجر منها بالجلوس في الحسينيات بعد انتهاء الخطيب، إلا مَن كان معذورًا. كما لا يليق الوقوف في الطرقات للنظر إلى المارّين والمارّات والتسامُر في المزح والضّحك!!

3/ نرجو من النساء والفتيات إلتزام (الحياااااء) ولبس الحجاب الشرعي لا العباءات المزيّنة والملوّنة ولا تلك الضيّقة التي تُجسِّد المفاتن وتُغري الشباب وتُفسد المجتمع. وكذلك أن يتجنّبن العطورات وتسريحات الشعر وحركات الميوعة والمعاكسات -والعياذ بالله-. فإن ذلك من الموبقات ومن كبائر الذنوب التي إن ماتت المرأة أو الفتاة على تلك الحالة فهي في نار جهنّم وبئس المصير.

4/ ننصح بإغلاق أجهزة الهواتف وعدم فتح الواتسب ومتابعة الصفحات الإلكترونية حين خطابة الخطيب.. كما ننصح النساء -والفتيات خاصة- إلتزام السكوت والإصغاء للخطيب وعدم سلب الأخريات فرص التعلّم والإستفادة. إنها ساعة واحدة فليخصّصنها للإستماع وكسب الوعي العام.

5/ ندعو الشباب الذين لم يجرّبوا حلاوة الخدمة الحسينية أن يجرّبوها بتحمّل المسؤولية في تنظيم الفعاليات الشعائرية مثلاً، ويتعاونوا مع غيرهم لرفع درجة الحذر والإنتباه لكل المخاطر المحتملة!!

وصدق الله تعالى حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

الفقير إلى رحمة الله الغنيّ:
عبدالعظيم المهتدي البحراني

الأول/من شهر محرّم/1438

للاعلى