واقعة الغدير
الحقيقة التي غَدَرَ بها المُغادِرون

تلخيصًا لمحاضرة سماحته التي ألقاها في مأتم (بِن زَبَر) بالعاصمة (المنامة) ليلة عيد الغدير الأغرّ (18/ذي الحجة/1437).

بسم الله الرحمن الرحيم

أبارك لكم (عيد الله الأكبر).. ولماذا هو (الأكبر) كما أطلق عليه أهل البيت (عليهم السلام)؟

لأن الولاية أساس الدّين، وهدف الدّين هو التقوى، فإذا عشنا التقوى في قلوبنا وسلوكنا فقد عشنا العيد الحقيقي الذي قال عنه الإمام علي (عليه السلام): {كلّ يوم لا يُعصى فيه الله فهو عيد}.

من هنا فعيد الغدير أكبر من عيد الفطر وعيد الأضحى.

من هذا المنطلق جاءت واقعة الغدير التي أصَّلَت لها ثلاثُ آياتٍ بيّنات في ثلاث مراحل:

1/ مرحلة ما قبل الإعلان: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

وفيها تحذير من تساوي عدم إبلاغ رسالة الولاية مع عدم إبلاغ رسالة الدّين كلّه.

وفيها أنّ هناك مؤامرة من الناس ضد الولاية، والله يعصم الرسول من المتآمرين.

وفيها تصريحٌ بأن مقام الولاية والإمامة والخلافة صادرٌ من الله، كمقام النبوّة الذي يصدر منه -عزّ وجل-. فكما ليس لأحدٍ غيره أن يُعيّن نبيًّا كذلك ليس لأحدٍ غيره أن يُعيّن خليفةً للنبيّ.

دقّقوا في الآية: (مِنْ رَبِّكَ).

2/ مرحلة حين الإعلان: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

وفيها يَئسُ العدوّ، والتصدّي لمآربه بشجاعة، وفيها كمال الدّين، وتمام النّعمة، ورضا الربّ…

هذه من عطاءات الغدير العظيمة ومن دون الغدير ما كان ليكون ذلك كلّه.

3/ مرحلة ما بعد الإعلان: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ).

وفيها تنفيذ العقاب على النّعمان بن حارث الذي اعترض على الرّسول (ص) بكلّ عنجهيّة في يوم الغدير، فأعطى ظهره للرسول الأعظم ومشى وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله وأنزل اللّه تعالى هذه الآية:(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

هذا في البُعد القرآني حول (الغدير).. وأما في البُعد النبويّ، فقد نزل رسول الله بثقله الشخصي في الساحة وألقى خطبته الحاسمة أمام 120 ألف مسلم ومسلمة ممن حضروا غدير 18 من ذي الحجة سنة العاشرة بعد الهجرة، فقال مخاطبًا فيهم: {مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه}.

وفي البُعد العتروي، فللغدير في أحاديث العترة من أهل البيت (عليهم السلام) مساحة واسعة.. وهم مطهَّرون صادقون، لم تعرفِ البشريّةُ عنهم أقلّ مِن شطر كلمةٍ في الكذب.

كما وتحدّث عن واقعة الغدير 110 صحابيًّا، كان بينهم عبدالله بن جابر الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وأبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وكلّهم باركوا للإمام علي بقولهم: بخٍّ بخٍّ لك يا عليّ قد أصبحتَ وأمسيتَ مولاي ومولا كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.

ومن التابعين روى واقعة الغدير 83 تابعيًّا من الجيل الثاني والثالث بعد الصحابة. وفيهم سعيد بن جبير، وعمر بن عبدالعزيز.

هذا وذكر 3600 عالمًا من علماء أهل السنّة واقعة الغدير في كتبهم، بما فيها ثلاثة من أهمّ صحاحهم (البخاري، ومسلم، والترمذي). وعبّروا عن روايتها بالحسن والصحيح.

وأمّا بين علماء الشيعة وجمهورهم فلم يختلف إثنان على واقعة الغدير ورسالتها في الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام). وقد كتبوا حولها مئات الآلاف من الكتب والرسائل، وأهمّها موسوعة (الغدير) للعلّامة الأميني (أعلى الله درجاته).

نعم.. ولا ننسى الأدباء والشعراء.. فقد أنشدوا عن واقعة الغدير في طول التاريخ ملايين القصائد التي منها بقيت ومنها ضاعت.

الكلام هنا هو ما يلي:

هذا الغدير وبكلّ أدلّته النّقليّة قرآنيًّا وروائيًّا وتاريخيًّا، وبأدلّته العقليّة التي تؤكّد على أنّ كلّ قائدٍ حكيم لن يترك مشروعه بلا نائبٍ يشبهه في علمه وأخلاقه وأمانته القياديّة وحكمته الإداريّة.. لماذا تمّ إنكارها من قِبَل أكثر المسلمين؟! وكان فيهم حجّاج من العراق واليمن ومصر والشّام، وما يقارب 70 ألفًا من المدينة المنوَّرة فقط…

لماذا تجاهل أكثر المسلمين هذه الواقعة العظيمة؟ وبينما أنكرها بعضهم حرّف بعضهم الآخر ما قصده الرّسول خلافًا لظاهر اللغة العربيّة، دون أدنى خجل؟!

لماذا غدروا.. لماذا غادروا.. لماذا سكتوا.. لماذا تفرّجوا حتى تغيّر بهذا الظلم مسار الأمّة الإسلامية فدخلت في منعطفات خطيرة إلى اليوم؟!

هذا وهم يتلون هذه الآية الكريمة: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟!

الإجابة على هذا السؤال ليست من الصعب!!

نظرةٌ في الأحداث التي تجري اليوم في بلاد المسلمين وغيرها تكفي من خلالها أن تعرفوا لماذا الحقائق الواضحة تُدهَس في رابعة النهار؟! ولماذا الكفاءات تُهمَّش؟! ولماذا الناس يسكتون؟!

ففي عالَم الكذب والدّجل والفبركة والتزوير عبر وسائل الإعلام وشراء الذّمم كم من أناس لعبت بهم القوى الإستعمارية وأتباعها وصاروا إمّعيّين!!

ما أكثر الظلم وما أبشع الجرائم في زماننا.. ولكن الناس يتفرّجون رغم وضوح الحقائق.. بل وبعضهم يتأثرون بالكذب ويتحمّسون للباطل.. بل ومستعدّون أن يُقتَلوا لأجل العصبيّات الجاهليّة.

كثيرٌ مِن الصالحين ومن الكفاءات الرياديّة زحزحتهم المؤامرات فحرمت الناس من الإستفادة منهم.. والناس كذلك ساكتون!!

فلا تستغربوا إذن كيف أبعدوا الإمام علي عن الخلافة، وكيف سكتت الأكثرية بل وساندت الإنقلابيين، وكأنهم لم يسمعوا من الرسول (ص) تلك الخطبة الغديريّة!!

بذلك أستطيع القول أنّ الغدير واقعة متكرّرة منذ 1427 سنة وعلى عدّة مستويات. ولهذا أُصيبت الأمّة بالشّلل في كافّة أمورها وإلى الإنحدار.

كلّ الأمل هو في الأوفياء لوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذّاهبين إلى غديرٍ آخر بقيادة المهديّ من آل محمد، وهو ما يلزمنا جميعًا أن نتهيّء لهذا الغدير بما يلي:

1/ أن نكتشف كفاءاتنا وندعمها.

2/ أن نتآخى غدًا في يوم الغدير، ونعلنها أخوّةً إيمانيّة مُنتِجة.

3/ أن نتعاون على البرّ والتقوى، ونحسّن أخلاقنا.

4/ أن نترك الخلافات التي تخدم أعداء الولاية.

5/ أن نبلّغ عن الغدير وثقافته الولائيّة كما بلّغ عنه الرسول، فنتصوّر هذا الأمر منه (صلى الله عليه وآله) موجَّهًا إلينا أيضًا: {فليُبلِغ الحاضرُ الغائبَ}…

أللهم اشهد أنّي قد بلّغتُ.

والحمدلله الذي جعلنا وإياكم من المتمسّكين بولاية عليٍ أمير المؤمنين (عليه السلام).

للاعلى