عيدُ الأضحى
الحقيقةُ والرسالة

تلخيصًا لخطبتَي سماحته (حفظه الله) في صلاة عيد الأضحى المبارك.. لعام 1437 وذلك بمسجد الرسول الأعظم (ص) -البحرين محافظة المحرق-.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

* الخطبة الأولى:

من أين أتى عيدُ الأضحى؟

رجلان وإمرأة.. النبيّ إبراهيم، وإبنه النبيّ إسماعيل، وزوجته المؤمنة الصابرة هاجر أمّ إسماعيل، هم أبطال أكبر حدثٍ تاريخيٍّ شَكَّلَ تمهيدًا لظهور الإسلام على مَسرَح الحياة العالميّة، حيث قال القرآن الكريم: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ).

تبدأ القصّة من أنّ إبراهيم -بوحي من الله تعالى- رغب في ذرّية تقود بإمامتها مشروعه في توحيد الله لإنقاذ البشريّة من براثن الشرك.. وكانت زوجته (سارة) لم تحمل.. فاقترحت له الزواج من (هاجر) وكانت أميرة مصريّة قد أُسرَت واشتراها إبراهيم بحُكم أَمَة. فتزوّجها وحملت منه. ثم هاجَرَ معها من أرض فلسطين إلى صحراء مكّة يوم لا مكّة هناك…

إبراهيم ذلك الشابّ التوحيدي المجاهد كان طموحًا، فأخذ في بناء كعبة (البيت الحرام) وصلّى بعد إتمامها شكرًا لله، وكان من الله أن يُطلِق على موضع صلاته إسم (مقام إبراهيم) تخليدًا لذكراه.

ووضعت (هاجر) حملها في هذه الأرض اليابسة، وسمّياه إسماعيل، ثم قرّر إبراهيم العودة لوحده إلى فلسطين، إذ لديه هناك مشروعٌ آخر هو المسجد الأقصى. وفيها أيضًا زوجته الأولى (سارة) التي هي الأخرى رُزِقَت ولدًا.. فسَمَّياه (إسحاق).

هاجر.. بقيت مع طفلها إسماعيل وحيدة الصحراء تكافح صعوبات الحياة.

إبراهيم حين الوداع أطلق إلى الله تعالى هذا الدعاء بنظرته البعيدة للحدث: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

(ذُرِّيَّتِي) وليس فقط إسماعيل.. فهو ينظر إلى محمد وآل محمد قادة آخر الشرائع.

(تَهْوِي إِلَيْهِمْ) وليس تهوي إليها، لأن النبي وأهل بيته أعظم من أحجار الكعبة.

أمّ إسماعيل تحتاج إلى ماءٍ تُروِي عطش ولدها الصغير، ولكن لا مِن ماءٍ هناك ولا بشر يعينونها ولا طيور…

تركت طفلها دقائق على الأرض اليابسة وأخذت تتحرّك سعيًا بين مرتفعٍ سُمّي فيما بعد (الصّفا) ومرتفعٍ سُمّي لاحقًا (المروة) بحثًا عن قطرات ماءٍ لطفلها. وعادت ولا مِن ماء.. ولكنّها تفاجأت بنبعِ ماءٍ يجري تحت قَدَمَي طفلها إسماعيل، والذي سُمّي فيما بعد بئر (زمزم).

إسماعيل الطفل أصبح الآن إسماعيل الشِّبل.. إنه من ذاك الأسد الذي كان هو الآخر يضرب في طريق العودة إلى أرض مكّة بعد سنين.

فصول القصّة (قصّة الحجّ) لازالت لم تكتمل.. إنّ لله من وراء هذا الحدث حكمةً وأسرارًا.

لقد عرفنا الكعبة، ومقام إبراهيم، والسّعي بين الصفا والمروة، وماء زمزم. والآن بقي رميُ الشيطان في مواضع الجمرات الثلاث، وبقي ذبح الكبش فداءً لإسماعيل بعد اختباره وأبيه وأمّه في التسليم والتضحية والفداء.

وهنا نزل الوحي على إبراهيم، إذ قال تعالى:

• (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) هكذا يجب أن يكون الشباب.. لا طيش اللّاهدفيّة وعصبيّة الأهواء والشهوات.

• (فَلَمَّا بَلَغَ -إبراهيم- مَعَهُ -أي مع ولده- السَّعْيَ -صارَحَه و- قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ).

تصوّروا أنّ أبًا كانت أُمنيّته الحصول على ذرّية من ولد، والآن وبعد أن اشتدّ عودُه وصار شابًّا يافعًا يأمره الله أن يذبحه وبيده أيضًا.. وهو لازال لا يدري أن الموقف مجرّد إختبار وليس أكثر.

ظَهَرَ إبليس في هيئة إنسانٍ ينصح إبراهيم بعدم إرتكاب جريمة الذّبح!!

فرماه النبيّ إبراهيم بحجر.. هرب إبليس. ثم عاد يوسوس.. فرماه ثانيةً فهرب. بلا رجعة.

• وأما إسماعيل: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

هذه هي التربية الإبراهيميّة.. طاعة الأب المطيع لله ولمشيئته.. ويمتلك الإبن الثقة الكاملة بأنه من الصابرين تحت ألمِ السكّينة.

• (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ).

فلمّا استسلما لأمر الله، الأب الذي استعدّ أن يكون ذابحًا.. والإبن الذي سيكون مذبوحًا.. (وَتَلَّهُ) أي أبطَحَه على جبينه بطلبٍ من الإبن.. ذلك كيلا تقع عينُه في عين أبيه وعين أبيه في عينه فتأخذهما العاطفة فيتراجعا عن تنفيذ أمر الله تعالى.

• هنا.. حيث اللّحظات الأخيرة من نجاح الإختبار: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا).

الرّؤيا كانت صادقة، وهي الوحي من الله.. ولكنّ السكّينة لم تقطع رغم أنها كانت حادّةً جدًّا. لأنّ الله الذي قال للنّار يوم كان إبراهيم شابًّا: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) هو نفسُه اليوم في شيخوخة إبراهيم يأمر السكّينة أن لا تقطع رقبة هذا الغلام الحليم.

• لقد حاول إبراهيم مع السكّينة محاولةً جادّة ليكون بالفعل قد نفّذ أمر الله بلا تردّد، وهذا التكرار كان إحسانًا منه، ولكنّ الله قَدَّرَ هذه التضحية التي بلغت درجة الإحسان، فقال: (إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).

• ماذا كانت جزاء الله لإحسان خليله إبراهيم الذي ابتُلِيَ بهذا البلاء المبين والإختبار الصعب؟

الجواب: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

فعيد الأضحى إذن قد أتى من تضحية النبيّ إبراهيم بإبنه النبيّ إسماعيل والعكس أيضًا. والله قد أرسل بيد ملائكته بديلًا للذبح، وهو الكبش.

* الخطبة الثانية:

لقد امتحن اللهُ خليله إبراهيم ونبيّه إسماعيل إلى ما قبل التنفيذ.. ولكنّه -عزّ وجل- امتحن حبيبَه النبيّ محمدًا وسبطه وريحانته ومهجة قلبه وثمرة فؤاده وقرّة عينه وفلذة كبده الإمام الحسين قبل وبعد التنفيذ.. فأيّهما أعظم؟

تأصيلًا لهذا المعنى يقول الفضل بن شاذان: {سمعتُ الرّضا (عليه السلام) يقول: لما أَمَرَ الله -عزّ وجل- إبراهيم (عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه تمنّى إبراهيم (عليه السلام) أن يكون قد ذَبَحَ ابنه إسماعيل بيده، وأنه لم يُؤمَر بذبح الكبش مكانه ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعَزّ ولده عليه بيده فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب.
فأوحى الله -عزّ وجل- إليه: يا إبراهيم مَن أحَبَّ خلقي إليك؟
فقال: يا ربّ ما خلقتَ خلقًا هو أَحَبّ إليّ مِن حبيبك محمد (صلى الله عليه وآله).
فأوحى الله تعالى إليه أفهو أحَبّ إليك أم نفسك؟
قال: بل هو أحَبّ إليّ مِن نفسي.
قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟
قال: بل ولده.
قال: فذِبحُ ولدِه ظلمًا على أيدي أعدائه أوجَع لقلبك أو ذِبح ولدك بيدك في طاعتي؟
قال: يا ربّ بل ذِبح ولده ظلمًا على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.
قال: يا إبراهيم فإن طائفةً تزعم أنّها مِن أمّة محمد ستَقتُل الحسينَ ابنَه مِن بعده ظلمًا وعدوانًا كما يُذبَح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي.
فجَزَعَ إبراهيم (عليه السلام) لذلك، وتوجَّعَ قلبُه وأقبَلَ يبكي.
فأوحى الله -عزّ وجل- إليه: يا إبراهيم قد فديتُ جَزَعَك على ابنك إسماعيل لو ذبحتَه بيدك بجَزَعِك على الحسين وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. وذلك قول الله -عزّ وجل: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)}.

من هنا.. تشابهت القصّتان.. قصّة إبراهيم وإسماعيل الجَدّ مع قصّة ذرّيتهما محمد والحسين في مشاهد عدّة:

1/ الهجرة إلى كربلاء.. والهجرة إلى مكّة…
2/ العطش في عاشوراء.. ولا ماء في صحراء مكّة…
3/ كفاح العبّاس بين الخيام وبين ماء الفرات، وطلب الحسين ماءً لولده عبدالله الرّضيع.. وسعي أمّ اسماعيل بين الصفا والمروة…
4/ رمي العدوّ الأمويّ.. ورمي الجمرات…
5/ التضرّع الحسيني إلى الله، وخاصّةً ليلة عاشوراء.. والدعاء الإبراهيمي…
6/ الصلاة بآلام ظهر عاشوراء.. والصلاة عند الكعبة بتعب البناء…
7/ بذل السيّدة زينب غاية مجهودها.. وبذل هاجر منتهى جهدها…
8/ التضحية والفداء والشهادة عند الحسين وأولاده وأصحابه.. والإستعداد لها عند إبراهيم وهاجر وإسماعيل…
9/ ضريح الحسين قبلة الأحرار.. والكعبة المشرَّفة قبلة المسلمين…
10/ القضيّة الحسينية ذات أهداف إلهية خالدة.. والقضية الإبراهيمية كذلك…

هكذا طبّق الإمام الحسين أسرار حجّه الأصيل لمّا نقله بكلّ رساليّته من مكّة إلى كربلاء.. فكان هو المصداق الحقيقي للذِّبح العظيم في هذا الفداء المتميّز.

تلك هي حقيقة عيد الأضحى، وأمّا الرسالة هنا.

فيا أيّها الإخوة.. ويا أيّتها الأخوات:

تأمّلوا معي.. لو كان التسليم في طاعة الله حقيقةً متحرّكةً في روحنا كمسلمين، ولو كانت التضحية التي هي من تجلّيات هذا التسليم حاضرةً في سلوكنا -أيضًا كمسلمين-.. هل كان حُبّ الذّات بعدئذ يعلو صوتُه فوق الدّين والأخلاق بيننا؟ وهل كانت الأنانيّة تتقدّم المواقف لتخلق الأزمات الفكرية والمالية والعائلية والإجتماعية والسياسية في الأمّة الإسلامية؟

تأمّلوا بحثًا عن السبب الأساس في مآسي المسلمين وخلافاتهم وعداواتهم وحروبهم وتخلّفهم.. وستجدونه في الأنانيّات المتورّمة عند الأشخاص الذين غادروا معنى التضحية؟!

فعيدُ الأضحى هو الدّعوة للعودة إلى ذبح الأنا في سبيل الله.. أن نذبح العصبيّات الجاهليّة كيلا نكون ضحايا لها ثم نخسر الجنة التي خلقنا الله لأجلها.

فلنتعلّم من إبراهيم واسماعيل وهاجر.. ومن محمد والحسين وزينب.. دروس الإخلاص لله والتسليم لمشيئته والجهاد والهجرة والسّعي لخير الناس والشهادة والتضحية بالمصالح الشخصية التي فَتَكَت بالقيم الإنسانية وذبحت الضمير في أكثر المواقف.

أجل.. فموسم الحجّ جاء قبل موسم عاشوراء.. كي نسمو مع الذين تساموا فيهما إلى رضا الله ورضوانه.

العيد.. تلك هي حقيقته، وهذه رسالته.

للاعلى