بصائرٌ مِن وحيِ ليلةٍ
هي خيرٌ مِن ألفِ شهر

تلخيصاً لمحاضرتين مختصرتين إفتتح بهما سماحته (دام ظلّه) أعمال ليلة القدر في حسينية أهل البيت (عليهم السلام) ليلة 21 و 23 من شهر رمضان 1437

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

إنّ معرفة الشيء شرط للإستفادة الصحيحة منه، فكما لو عرفنا أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) ونحن نزورهم سنستفيد أعلى درجات القبول عند الله كذلك لو عرفنا معنى ليلة القدر، ولن نستطيع معرفتها على النحو الكامل لأن عظمتها أكبر من إدراكنا (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ).. ولكن أن نعرف بأننا لا يمكننا أن نعرف.. هذا بحدّ ذاته شيء مهمٌّ في معرفة عظمة هذه الليلة.

إنها الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم.. فهي ليلةٌ مباركة بنصّ الآية (3) من سورة الدخان (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)

إنها الليلة التي (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) على النبيّ الأكرم لمّا كان حيّاً بالحياة البشريّة ثم على الأئمة الطاهرين.. ولازال نزولها مستمراً على الإمام المهدي (أرواحنا فداه) وهذا دليل حياته ووجوده وإلا فعلى مَن (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) في ليلة القدر؟!

إنها الليلة التي يقدّر الله فيها بحكمته الأمور حسب مقاديرها وعلى ضوء ما يجهد العبد في دعائه وتضرّعه وخشوعه. (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

إنها الليلة التي لها قدرُها الخاص وقيمتُها العالية، وهنيئاً لمن يعرف قدرَها ويحييها بالعبادة والصلاة والإستغفار والأدعية الخاصة بها.

إنها الليلة التي يريدنا الله فيها أن نعرفه من خلال صفاته التي وردت في دعاء الجوشن الكبير، ولذلك فهذا الدعاء من أهم أعمال هذه الليلة الشريفة.

إنها الليلة التي نجمع في التوسّل إلى الله تعالى بين القرآن الكريم نرفعه على رؤوسنا وبين القَسَم بالله أوّلاً وبالمعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) لنعيش تحت ظلّ الثقلين كما أوصانا رسول الله (ص).

إنها الليلة التي نراجع فيها ما مضى من عمرنا لنقرّر للذي سيأتي.. وهذا القرار جعله الله بأيدينا هذه الليلة، فنحن الذين بأنفسنا نقرّر إن كنا نريد أن نكون من السعداء أم من الأشقياء.. السعداء هم في هذه المجالس ويدعون بشرطه وشروطه، والأشقياء هم الذين يرتعون في مجالس البطّالين كما ترتع البهائم غافلين تائهين لا يفقهون حديثاً.

ضروريٌّ جدّاً أن نعرف قدر ليلة القدر وقيمة الساعات المقدّسة فيها قبل أن تنتهي ويخرج علينا الصبح ونحن لا ندري هل نكون أحياءاً إلى ليلة قدر أخرى بعد عام أم نكون من الموتى كما هو حال بعضنا الذي كان حيّاً في ليلة القدر السابقة وهذه الليلة تحت التراب ولا ندري ما حالهم وما حسابهم وماذا يتمنّون…

فيا أيّها المؤمنون
ويا أيّتها المؤمنات

إجهدوا بأنفسكم أن لا تفوتكم جوائز الله في هذه الليلة.. فإن لكل واحد منّا بمقدار نظافة قلبه سيعطيه الله. فلننظّف قلوبنا أوّلاً بطلب المغفرة كي نستحق بعدها العطايا الإلهية.
فهذا النبيّ سليمان (ع): (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فأعطاه الله الحكم والنبوّة وحتى الطيور والحيوانات والحشرات أخضعها الله لحكومته. ذلك بعد طلبه للمغفرة.

لذا فالإستغفار وطلب العفو من الله جزء أساسيّ من أعمال هذه الليلة الإستثنائية الفريدة في طول السنة. إستغفروا ثم اطلبوا حوائجكم لأن الحوائج لا تُعطى لمن ظهورهم مثقلة بالذنوب.

رغم ذلك إننّي أعتقد بأنّ النبي سليمان لم يكن موفَّقاً في طلبه مُلكاً في الدنيا. فلقد مات ومات معه ملكُه وليس له ذِكرٌ إلا في القرآن كقصّة. بينما علّمنا أهل البيت (عليهم السلام) أن ندعو الله بهذا مثلاً: “اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ خَيْرَ ما سَأَلَكَ مِنْهُ عِبادُكَ الصّالِحُونَ، وَاَعُوذُ بِكَ مِمَّا اسْتعاذَ مِنْهُ عِبادُكَ الْصّالِحُونَ”.

وكم سنكون موفَّقين لو قلنا في دعائنا الليلة: أللهم اعطِنا خيرَ ما أعطيتَ الصالحين من قبلنا وخير ما ستعطي الصالحين من بعدنا!!

بهذه الفطنة في الطلب الكبير قد أعطى الله النبي والأئمة (عليه وعليهم السلام) مُلك الدنيا والآخرة.. إذ حكموا العقول والقلوب وحكموا التاريخ والشعوب بفكرهم وقِيَمهم وأخلاقهم وفرضوا حبّهم على العقلاء وأصحاب الضمائر وفوق ذلك ستأتي دولتهم العالمية الكريمة أيضاً.. والأهمّ أنهم يحكمون الآن عالَم البرزخ وبعده يوم الحشر وهم قُسَماء الجنة والنار بإذن الله عزّوجل.

هكذا فلنتعلّم من قادتنا الأطهار ماذا نطلب في الدعاء من الأهداف الكبيرة وهي ليست على الله عسيرة ولا مستحيلة.

فما هي تلك الأهداف التي نطلبها؟
أوّلاً: التعجيل في ظهور الإمام الحجّة (ع) لأن بظهوره تنتهي مآسينا وما تعانيه البشرية من ظلم وضياع.

ثانياً: أن يجعلنا الله مؤهّلين لنصرة هذا الإمام العظيم وممن يعملون في حكومته العادلة.

ثالثاً: أن نطلب من الله حسن العاقبة وفكاك رقابنا من نار جهنم.

رابعاً: الدعاء للسجناء بالإفراج وللمحصورين في مناطق الحروب مثل اليمن والعراق وسوريا بالأمن والأمان.

خامساً: ندع الله للمرضى ولأصحاب الحوائج الصعبة ولوالدَينا ولذريّاتنا ولعوائلنا ولأصدقائنا ولجيراننا ولمجتمعاتنا.

نعم.. هذه ليلة التغيير أيّها الأحبّة ولا يتهاون أحدنا في تغيير ما بنفسه لأن الله لا يغيّر واقعنا المتأزّم ما لم نتحمّل نحن قرار التغيير النابع من داخلنا.. يجب أن نصارح أنفسكم.. ونحاسبها بشجاعة.. ونتوب إلى الله توبةً تقطع طريقنا إلى المعاصي والعادات السلبية.
بهذه البصائر التي توحيها إلينا ليلة القدر سنمضي بعون الله نحو مستقبل أفضل ونحن نقول: الحمدلله ربّ العالمين.

للاعلى