كلمة…
لطلبة العلوم الدينية

تلخيصًا لكلمة ألقاها سماحته على طلاّب حوزته (حوزة خاتم الأنبياء -ص- العلمية) بمناسبة إنتهاء الدورة الدراسية في 24/رجب/1437 وبداية العطلة التبليغية لشهر شعبان وشهر رمضان.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)

لكيلا نكون من أهل العلم فقط لا من أهل العمل فإن علينا الإنتباه لهذه القصة الجميلة:

جاء أحد طلبة العلوم الدينية -بعد أن قطع أشواطًا كبيرة في الدراسة- ليودِّع أستاذه راجعًا إلى أهله وبلده.. فطلب من أستاذه أن يوصيه بكلمة أخيرة لا ينساها في طول حياته.
فقال له أستاذه: إذهب واعلم أنّ اللهَ يرى.

نعم.. أيّها الأحبّة.. إعلموا أنّ اللهَ يرى.. يرى منّا كل قول وفعل قبل صدورهما. وإذا كانت هذه حقيقة وهي كذلك من دون شك هل يجوز لنا التهاون فيهما ونحن المفروض أننا نريد رضا الله ونعوذ به من سخطه؟!

أيّها الأحبّة:

لقد تزوّدتم في هذه الحوزة المباركة بالعلم النافع ولله الحمد.. وأنتم في طريقكم إلى الناس فترة شهر شعبان وشهر رمضان.. إعملوا بما تعلّمتم ولا تنسوا روح العلم والعمل وهي اليقظة المعنويّة التي تلخّصها تلك النصيحة: (إعلم أنّ الله يرى).

كاميرات الرقابة المرورية في أكثر الشوارع لصيد المخالفات تقرّب لنا معنى رقابة الله علينا وهو العالم بما في الصدور. متى يعرف الغافلون في سياقتهم أهمية هذه الكاميرات لمّا يذهب أحدهم إلى إدارة المرور لحاجة مثل تسجيل السيارة أو بيعها وما أشبه فإنهم سيضعون أمامه فواتير الغرامات، فإن دفعها وإلا فالمعاملة لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ!!

هذه الرقابة التكنولوجية ليست شيئًا بالمقارنة مع رقابة الله، فلو اسشعرناها لجلبنا لأنفسنا الراحة المستدامة.

إعلم أنّ الله يرى.. كلمة نريد نصبها أمام ذاكرتنا باستمرار لنربح ثمار دروسنا بعون الله تعالى.

أيّها الأعزّاء:

لا تتهاونوا في سمعتكم فإنكم تحتاجونها في طول المسيرة…
لا تتساهلوا بوضع أنفسكم في الشبهات وإلا فالإساءة للأبرياء أصحاب الرسالات الإصلاحية أمرٌ لا مفرّ منها. كم أساء الجاهلون للأنبياء والأوصياء والفقهاء والعلماء الربّانيّين ولجميع المصلحين حيث تعرّضوا لتشويه السمعة وحتى لم تسلم أعراضُهم من ألسنة الحمقى. أنا لا أقصد هذا النوع من الإساءة بل أقصد أن لا تعرّضوا أنفسكم بأقوال شاذّة وأفعال شاذّة تسبّبوا لأنفسكم سقوطًا من أعين الناس فتندموا على ما خسرتموه.

أحيانًا لا يكون الإنسان مقصِّرًا وهو يسير في الطريق الصحيح ولكن تحدث له مفاجأة لم يتوقّعها من ناحية ومن ناحية أخرى يخرج هناك أناس لا يرحمون.
الله يرحم الذين كانوا يحملون فعل أخيهم على سبعين محمل خير!!
إنتهى عصر هؤلاء الطيّبين.. نحن في عصر قد أصبح الإنسان البريء مستهدفًا حتى على ألسنة المتقمّصين للدّين، فكيف إذا وضع الإنسان نفسه في موضع الشبهة والتهمة؟!

إنّ السمعة الحسنة لعالم الدين أساس نجاحه بين الناس.. لذلك كان الظالمون والجاهلون يضربون العلماء الصالحين في سمعتهم ليبعدوا الناس عنهم.

نقل لي أحد العلماء أنه تزوّج إمرأةً كان السبب في تحجّبها وهي وحيدة أبيها الذي كان طريح السرير في المستشفى وأيّامه معدودة حيث كانا غرباء في البلد وتعرّف على أبيها في المستشفى وأخذ يساعده وينصح إبنته بالسّتر والحجاب. يقول أني بعد العقد الشرعي كنتُ خارجًا معها لعيادة أبيها فتشاجرنا في السيارة على موضوع وإذا بها غضبت وصرخت وخلعت حجابها فورًا وحاولت تفتح باب السيارة وترمي نفسها. وكان من الصعب أن أسيطر على الموقف. وليس هذا مهمًّا وقد مشيتُ في أمر تطليقها بهدوء بل المصيبة العظمى هي خسارتي لجمعٍ من الناس كانوا يحبّوني وأقرأ عندهم في الحسينية، والسبب لأن أحدهم في تلك الأثناء وهو في سيارته رآني مع إمرأة متبرّجة فنشر بين أصحابه الخبر من غير أن يعرف القضية.

من هنا أقول أن الناس ما يرحمون وعلينا كعلماء وكمعمَّمين أن ندقّق يا أحبّتي في أمورنا وسلوكنا وأن لا نتساهل كيلا نخسر ما تعبنا له فترة الدراسة.

قال لي الخطيب الورع المرحوم الشيخ الرحماني وكان حافظًا لثلاثين ألف حديث تقريبًا من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ويرتقي المنبر في مكتب المرجع المدرِّسي (دام ظله) في طهران أنه كان كثير الوُدّ للمرجع الهمداني ويحضر مجالسه قبل سنوات. فذات مرّة جاءه أحد كبار الأثرياء ليهديه بستانًا كبيرًا في مدينته (همدان) الإيرانية.
فلم يقبل منه المرجع الهمداني!!
أصرّ عليه الثريّ ولكن لم ينفع…
فلمّا انتهى المجلس وذهب الرجل قلنا للشيخ المرجع: لماذا رفضتَ الهديّة؟
قال: لأن عمامتي بيضاء.. واللّون الأبيض سرعان ما تُرى فيه النقطة السوداء.
الناس ما يرحمون.. غدًا يقولون مع شيء من البهارات -حسب تعبيرنا- أن الشيخ الهمداني عنده أملاك وبساتين ونحن فقراء ما عندنا شيء.. من أين له هذا كلّه؟!

نعم.. هكذا هم علماؤنا الربّانيّون، كانوا يعيشون الزهد من جهة والدقّة وقراءة النتائج البعيدة لمواقفهم من جهة أخرى.

أنتم درستم وتعلّمتم وستحملون ما درستموه إلى الناس لأن زكاة العلم نشره -كما في الحديث الشريف- ولكن لا تنسوا على طول الخط بأنّ الله يرى.

من هنا فليس المهم أننا علماء وكفى.. وأننا نعلم كيف نتكلّم وكفى.. وأن الناس يحترموننا وكفى.. بل المهم هو الله كيف يرانا.. فلنحذر من أن يرانا فيما نهانا.

ما أكثر العلماء وما أكثر الخطباء وما أكثر الرواديد الحسينيين.. ولكن ما أقلّ الحكماء، وما أقلّ العقلاء، وما أقلّ المتقين والمخلصين!!

كونوا رُسُلَ خيرٍ لهذه الحوزة المباركة التي نتشرّف تحت إسمها (خاتم الأنبياء) صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين النجباء.

إنني أشكر أساتذة الحوزة الكرام على اهتمامهم الدؤوب في تدريسكم وتوجيهكم.. كما أشكركم فردًا فردًا.. ومن الله أسأل وإليه أتضرّع أن يجعلنا جميعًا تحت رعاية المولى بقيّة الله الأعظم مولانا صاحب العصر والزمان (عجّل اللهُ فَرَجَه الشريف).

نلتقي بكم إن شاء الله في الدورة الدراسية القادمة بعد هذه العطلة التبليغية.. فانتهزوها في العمل بين الناس واستثمروها لبلورة المفاهيم العلمية في السلوك العملي معهم بحسن الأخلاق وكافّة الآداب الجميلة.

فقد قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لِشِيعَتِهِ: ” أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَ الْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ ، وَ الِاجْتِهَادِ لِلَّهِ ، وَ صِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ ، وَ طُولِ السُّجُودِ ، وَ حُسْنِ الْجِوَارِ ؛ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله ، صَلُّوا فِي عَشَائِرِهِمْ ، وَ اشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ ، وَ عُودُوا مَرْضَاهُمْ ، وَ أَدُّوا حُقُوقَهُمْ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ وَ صَدَقَ فِي حَدِيثِهِ ، وَ أَدَّى الْأَمَانَةَ ، وَ حَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ ، قِيلَ هَذَا شِيعِيٌّ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ ، اتَّقُوا اللَّهَ ، وَ كُونُوا زَيْناً وَ لَا تَكُونُوا شَيْناً ، جَرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ ، وَ ادْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ ؛ فَإِنَّهُ مَا قِيلَ فِينَا مِنْ حُسْنٍ فَنَحْنُ أَهْلُهُ ، وَ مَا قِيلَ فِينَا مِنْ سُوءٍ فَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ ، لَنَا حَقٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَ تَطْهِيرٌ مِنَ اللَّهِ ، لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ غَيْرُنَا إِلَّا كَذَّابٌ ، أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ ، وَ ذِكْرَ الْمَوْتِ ، وَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ ، وَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، احْفَظُوا مَا وَصَّيْتُكُمْ بِهِ ، وَ أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ ، وَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ “.
ودمتم موفقين لكل خير.

للاعلى