العالم الصالح
والعالم الفاسد

تلخيصاً لمحاضرتين ألقاهما سماحته (حفظه الله) في حوزة خاتم الأنبياء (ص) العلمية صباح الثلاثاء (4/رجب/1437) وفي مجلسه الأسبوعي ليلة الخميس (6/رجب/1437).

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “ألا إنّ شرَّ الشّر، شِرارُ العلماء، وإنّ خَيرَ الخيرِ، خِيارُ العلماء”؟

ذلك لأن الإنسان بفطرته يحبّ الدّين ويميل نحو الإيمان بالله وبشرائعه المقدّسة.. وهذا هو المنشأ في نظرة الناس إلى قدسيّة علماء الدّين باعتبارهم ملتصقين به. وهنا يتجلّى وجوب تهذيب العالم نفسه وترويضها على تقوى الله ليكون مصداقًا حقيقيّاً لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
فعلى طلبة العلوم الدينية أن لا يكتفوا بتخزين العلم وإهمال التربية الروحية والأخلاقية.. فالعلم شيء والورع شيء آخر.. فقد يجتمعا فيكون صاحبه عالمًا صالحًا، وقد يفترقا فيكون فاسدًا وعلمه لا ينفع.

نأسف جدًّا على بعض المدارس الحوزويّة حيث تركّز على تنمية الطالب عندها في البُعد العلمي وترمي مسؤولية البُعد التربوي والتقوائي والأخلاقي والآدابي على الطالب نفسه، فكم من طالبٍ يدخل الحوزة بخلفيّاته السلبيّة لا يتحمّل هذه المسؤولية فيتورّم بالعلم ويرجع إلى مجتمعه منفوخًا بلا ورع ونضج وحكمة. وهذه من الأخطاء الجسيمة التي سبّبت خروج معمَّمين يتقنون المنطق العلمي ولكنهم أصفار في التقوى والأخلاق وحُسن السلوك.
من هنا كثرت الأزمات بين الناس وزادت التوتّرات في علاقاتهم، لأنهم أصبحوا يتّبعون هذا النمط من خرّيجي الحوزات وهم علماء السّوء، ولو كانوا يتّبعون العلماء الذين وصفهم محمد وآل محمد (عليه وعليهم الصلاة والسلام) بصفات محدَّدة في الصلاح لما كانت تعصف بهم تلك المشكلات ويعيشون الجهل ويغالطون أنفسهم فتلعب بهم المؤامرات والإشاعات لُعبتها.

إنّ لعلماء الدّين المقبولين عند النبي وآل النبي صفاتهم الخاصّة، فإن وجدتموها في أيّ عالمٍ أحبّوه واحترموه واتبعوه كما قال إمامنا الصادق (صلوات الله عليه): “إنّا لَنُحِبّ مَن كان عاقلًا عالمًا فَهِمًا فقيهًا حليمًا مُداريًا صَبورًا صَدوقًا وفيًّا”.

نتوقّف عند هذه الكلمات قليلًا أيّها الأحبّة. وكلّنا -إن شاء الله- جعفريّون قولًا وفعلًا.. فهو (عليه السلام) يعلن حُبَّه لمن يكون عاقلًا.. فهذه هي البداية لأن العقل مفتاح كل خير. ثم العلم. وبعده تأمّلوا في بقيّة الصفات لتعرفوا أن العلم ليس كلّ شيء بل هو شيء بين تلك الأشياء. لذلك قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): “لَيسَ العِلمُ بِكَثرَةِ التَّعَلُّمِ ، إنَّما هُوَ نورٌ يَقذفه اللهُ في قَلبِ مَن يشاء”. فقيل يا رسول الله: وهل لذلك من علامة؟ فقال: “التّجافِي عن دَارِ الغُرور، والرَّغبةُ في دَارِ الخُلود، والإستِعدادُ لِلمَوتِ قَبلَ نُزولِه”.

فطالب العلوم الدينية إن لم يُربِّ نفسَه بالجهاد الأكبر فسيتحوّل إلى كائنٍ مُفخَّخ يدمّر باسم الدّين ويجرّ وراءه قطيعًا من البهائم الذين لا يفهمون سوى الحماقات المغلَّفة بالشعارات الدينية.. مثاله في أهل السنّة التكفيريّون وفي الشيعة المتطرّفون وهم موجودون في مؤيدي كل المرجعيات بلا إستثناء.

العالم الفاسد إذن حقيقة لا خيال.. والواقع الكارثي في الأمّة يرجع أسبابه إلى فساد الفقهاء أوّلًا والأمراء ثانيًا بدليل قول نبيّنا العظيم (صلى الله عليه وآله) الذي يرويه الإمام الصادق (عليه السلام) أيضًا: “صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي، وَ إِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هُمَا؟.
قَالَ: الْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاء”.

فما ترونه من الأزمات السياسية والإقتصادية والإدارية ومراكز التعليم والجامعات التي تغلبها مظاهر التفسّخ والنظريات الفاشلة باسم العلم والحضارة.. هذا سببها الأمراء الذين زادوا على محنة شعوبهم محنة الحروب وتكاليفها الباهضة.
ويبرّر لهم فساد العلماء وفتاواهم النابعة من حبّهم للدنيا. وفي العكس يكون العكس إذا ما صَلُحَ العلماء وصَلُحَ بهم الأمراء.

فبالنظر إلى تأثير هذين الصنفين على العباد والبلاد كان واجبًا أن ندقّق في دراسة الشخصيات العلمائية والسياسية، فلا نعطي مصيرنا في الدنيا والآخرة بأيدي كل مَن تظاهر بالدّين أو رفع شعارات سياسية برّاقة.

إخوتي.. أخواتي:

هذا شهر رجب الرحمة.. رجب الخير.. رجب التوبة والإستغفار.. فلننتهز أيّامه ولياليه في سبيل إعادة إنتاج معنويّاتنا.. بمراجعة نفوسنا وتطهير ما بداخلها من الخبائث وقد ظهر أكثرها في العلن، والذين لا يتوبون توبة نصوحا سيخرج من قبورهم يوم الحشر وكتابهم: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).

أختم كلمتي بالعودة إلى شرح بقيّة الحديث عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) حول صفات مَن يحبّهم “إنّا لَنُحِبّ مَن كان عاقلًا عالمًا فَهِمًا فقيهًا حليمًا مُداريًا صَبورًا صَدوقًا وفيًّا”. حيث يقول: “إنّ الله خصّ الأنبياء عليهم السلام بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك، ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى الله، وليسأله إياها.
قيل له: وما هي؟
قال عليه السلام: الورع والقناعة والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة وصدق الحديث والبر وأداء الأمانة واليقين وحُسن الخُلق والمروّة”.

علينا أن نبحث عن هذه الصفات في علماء مجتمعاتنا. فلا تخدعنا وسائل الإعلام والدعايات المُضِلّة لهذا العالم وذاك.. فليس كلّ معمَّم هو قدوة.. وليس كل خطيب هو الأسوة.. وليس كلّ صاحب لحية بيضاء هو مرجع تقليد…

فلنهدأ.. فلنتأمّل.. فلنفكّر.. فلنسمح لعقولنا وضمائرنا أن تأخذ دورها في صناعة واقعٍ جديد حولنا بلا أمراض نفسيّة وهيجانات طائشة.
مكارم الأخلاق هي العلاج وهي البوّابة الصحيحة للدخول إلى هذا الواقع الجديد. وتندرج تحت عنوان مكارم الأخلاق تلك المفردات التي ذكرها الإمام الصادق وهي التي تبني لنا حياةً طيّبة في الدنيا وسعادة أبديّةً في الآخرة.

أيها المؤمنون.. أيتها المؤمنات:

إنّ التربية الأخلاقية تكون حقيقية وموفقة إذا أسّسناها على أرضية الدعاء والعبادة والخشوع لله عزوجل. لنا ربٌّ رحيمٌ قد وَصَفَ نفسه بأرحم الراحمين بل وكتب على نفسه الرحمة لعباده.. فلنرحم أنفسنا وغيرنا كي نستحقّ رحمته.

إن كنّا علماء أو متعلّمين.. شباب أو شابّات.. كبار أو صغار.. كلّنا أجمعون.. مطالَبون الآن بالتوبة وكثرة الإستغفار…

تعالوا ولنتنافس على كسب حبّ إمامنا الصادق (عليه السلام) لنُدخِل عليه السرور إن قالوا لنا جعفرييّن ونحن صالحون. ولا نُدخِل عليه الحزن إن قالوا لنا جعفرييّن ونحن فاسدون (والعياذ بالله).

التفكّر.. العبادة.. مراجعة النفس.. صلاة الليل.. البكاء على خطيئاتنا.. إتخاذ قرار التغيير إلى الأفضل.. عدم اليأس من عفو الله وغفرانه.. مراقبة القلب أن لا ينحرف عن جادّة الحقّ.. تطبيق تلك المفردات من مكارم الأخلاق المذكورة.. كلّ ذلك وفي هذا الشهر المبارك ونحن نقترب إلى شهر شعبان المعظَّم ثم شهر الله الكريم شهر رمضان.. هو ذلك المطلوب منّا الآن.
أللّهمّ اجعلنا من الصالحين والمُصلِحين وألحِقنا بهم في جنّات نعيم بجاه محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

للاعلى