العبور من العَبرة إلى العِبرة

تلخيصاً لكلمة ألقاها سماحته الليلة (ليلة الجمعة) -23/محرم/1437- في مجلس الوجيه الحاج محمد الكعبي بمنطقة (سلماباد) في البحرين.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)

هنيئاً لكم توفيق الحضور في مجالس الحسين والبكاء على مصائب السبط الشهيد (بكى الحاضرون ببكاء الشيخ المهتدي)…

إنها المجالس التي يجب على الإخوة الحسينيين والأخوات الحسينيات العبور منها بدموعهم الساخنة إلى حضورهم الواعي في الحياة مع دين الحسين وأخلاق الحسين وأهدافه العظيمة.. هذا العبور يحتاج إلى حرارة دم الحسين التي قال عنها جدّه المصطفى (ص): “إنّ لدم الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً”.

الحسين عَبرة.. ولكن كيف يكون عِبرة؟

لقد روى أبو بصير عن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) عن آبائه (عليهم السلام) قال: “قال أبو عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه: أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر”.

هكذا يصرّح الإمام الحسين عن نفسه.. بأنه قتيل العَبرة، ولكن لا العَبرة التي يقف عندها الباكي دون التقدّم نحو معرفة الحسين وأهدافه من تضحياته في كربلاء.. بل تجب المعرفة ثم يجب العمل على ضوئها.. وهذا ما تضمّنه الحديث نفسُه حينما قال “لا يذكرني مؤمنٌ” فمَن هو المؤمن الذي يستعبر.. هو الذي آمن بالله وبالرسول وبالوصيّ وباليوم الآخر وعمل صالحاً حسب ما جاء في القرآن الكريم من قيم العبادة والتقوى والرحمة والعدل والأخلاق والحرّية. فالمؤمن الذي يبكي هو الذي يؤمن بهذه المبادئ ولا يكون حاقداً عليها.. لذا لا يكون غير المؤمن باكياً على الحسين.. لماذا.. لأنه لا يؤمن بدين الحسين وقيمه ومبادئه…

الإمام الصادق (ع) يعرّفنا صفات المؤمن الحسيني التي تجسّدت في أكمل حالاتها عند أبي الفضل العباس (بكى الحاضرون ببكاء الشيخ المهتدي)…

يقول الإمام: “كان عمّي العبّاس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة ، صُلب الإيمان ، جاهَدَ مع أخيه الحسين ، وأُبلِيَ بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً”.

* الصفة الأولى:
نافذ البصيرة.. فالمؤمن فَطِنٌ، يحلّل الأمور من حوله بدقة وموضوعية، وحيث هو ذو بصيرة ستُعينه بصيرتُه لقراءة ما وراء السطور والنفوذ بوعيه الثاقب إلى عمق القضايا، فلا تخدعه التشكيكات العقائدية ولا تأخذه كلمات يميناً وشمالاً كالهمج الرعاع.

* الصفة الثانية:
صلب الإيمان.. لا يهتزّ في إيمانه بالله وبدين الحق. إنه يعبد الله وهو عارفٌ معبوده. صلابته الإيمانية تجعله أقوى من صلابة الجبال، فلا يبالي في طريق الحق الذي وعاه عن علم ودليل ولن يبيع دينه.

* الصفة الثالثة:
جاهَد مع أخيه الحسين.. تلكما الصفتان تؤدّيان بالمؤمن أن يكون مجاهداً.. ولكن مع القائد الحسيني، لأن القائد غير الحسيني يأخذ مقوده الذي حسب نفسه مجاهداً إلى نار جهنم. فالقيادة أصلٌ أساسيّ وليس مجرد شجاعة الجهاد.

* الصفة الرابعة:
أُبلِيَ بلاءً حسناً.. البعض حين البلاء لا يعرف كيف يتصرّف ما يرتقي به إلى درجات المؤمنين. أما الحسينيّون فكالعباس يعرفون إنما يبلوهم الله ليرى أيّهم أحسن عملاً.. فلا يخاف المؤمن من البلاء وقد عرفه اختباراً من الله ليصنع منه الإنسان الناجح بالمعنى الصحيح. ترى مَن هو الناجح.. الذين بذلوا مُهَجَهم دون ابن بنت رسول الله ففازوا دنيوياً وأخروياً أم الذين غادروا كربلاء في ليلة عاشوراء وشملهم قول الإمام الحسين: “الناسُ عبيدُ الدنيا والدّينُ لَعِقٌ على ألسنتِهم، يدورونه ما دَرّت معائشُهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قَلَّ الديّانون”.

* الصفة الخامسة:
ومضى شهيداً.. هكذا هو المؤمن الذي اختار الحسين لنفسه إماماً.. إذا حان حين الشهادة بشروطها الحسينية لن يتردّد في المضيّ إلى كرامته التي أعدّها الله له في الدنيا والآخرة. حتى جاء في الحديث النبويّ: “إنّ فوقَ كلِّ بِرٍّ بِرٌّ حتى يُقتَل المرءُ في سبيلِ اللهِ فليس فوقه بِرّ”.

هكذا كان العباس مصداقاً للإيمان الصادق.. وهكذا يجب أن نكون.. فالعباس بكى أيضاً على مظلومية أخيه الحسين.. والحسين بكى أيضاً لما عانقه وقال في وداعه وهو يريد جلب ماء لأطفال الخيام: “إركب.. بنفسي أنت يا أخي”.
(وهنا بكى الحاضرون والشيخ المهتدي بكاءاً كثيراً)…

نعم.. أيها المؤمنون.. أيّتها المؤمنات.. إنّ عَبَراتنا هي الصراط للعبور إلى العِبرة الإيمانية في التمسّك الواعي بأهداف الحسين.. وهل تعلمون أنّ الظلم والفساد والعنف والجريمة إنما يرتكبها قساة القلوب.. وأما أنتم الحسينيّون فببكائكم على مصائب عاشوراء ترقّقون قلوبكم.. وهذا يحول بينكم وبين صفات الظالمين والمفسدين والمجرمين.

بهكذا خطاب لابد لنا أن نطرح الإمام الحسين وقضيّته للعالَم ثم ثقوا كم من الناس سيهتدون إلى دينكم العظيم.

وها أنا أختم كلمتي بقصة:
في سنة 1990 كنت وأسرتي من اللاجئين السياسيين في الدنمارك.. ذهبتُ إلى جامعة (كوبنهايجن) وتعرّفتُ هناك على أستاذ دنماركي في اللغة العربية وتاريخ الشرق، فاجأني بدعوتي لإلقاء كلمة على طلابه وطالباته وكان عددهم 80 من الأجانب وفيهم مهاجرون شرقيون وُلدوا هناك. دقائق وألقى الله في قلبي أن أحدّثهم عن الإمام الحسين وما جرى في عاشوراء.. بدأت كلمتي بقصة حول أخلاق النبي محمد ثم عدل الإمام علي ثم دخلت في أهداف الحسين وكيف ذبحوه عطشاناً وأولاده وأصحابه وطفله عبدالله الرضيع وأحرقوا الخيام على النساء واليتامى.. مجرّد سرد قصص بلا تعقيدات علمية.. فانهمرت دموعهم وبكوا…
ولما تركتُ المنصّة وحين خروجي من الصفّ برفقة أستاذهم اجتمعوا حولي وقالوا لو أنّ الإسلام هو هذا فاعتبرنا مسلمين.

أجل.. فنحن بالحسين يمكننا أيضاً العبور إلى قلوب الغربيين وهداية الناس وكسبهم.. فهل قمنا بتوظيف البكائيات الممدوحة في نصرة القضايا التي استشهد لها الحسين؟!
وآخر قولي أنِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
وصلِّ اللهم على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.

للاعلى