●العاشر من:
شهر محرّم (1437)

◎المسائل الحسينية◎
بين جريمة التحريف
وفريضة التصحيح

☜الجزء (10 من 10):

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمُ)

كتبنا في الأعداد التسعة السابقة حول (جريمة التحريف) و(فريضة التصحيح).. وابتدأنها بالتأسيس على مفهوم الوسطية في العلم والعمل.. وهنا في العدد العاشر والأخير نؤكد على المستفاد من الروايات الشريفة بأنّ شعيرة البكاء والعَبرة والحزن والرثاء والدمعة من أهمّ الشعائر الحسينية وكانت عليها سيرة أئمتنا الأطهار وجدّهم الحبيب المصطفى (عليه وعليهم الصلاة والسلام).

تقول أم سلمة زوجة النبيّ الأكرم (ص): كان النبي نائمًا في بيتي فجاء الحسين يدرج (وهو صبيّ يريد التسلّل إلى جدّه). قالت: فقعدتُ على الباب فأمسكتُه مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت: ثم غفلتُ في شيء فدبّ فدخل فقعد على بطنه!! قالت: فسمعتُ نحيب رسول الله فجئتُ فقلتُ: يا رسول الله ما علمتُ به. فقال: إنما جاءني جبريل -عليه السلام- وهو على بطني قاعد فقال لي: أتُحبّه؟ فقلتُ: نعم. قال: إنّ أمّتك ستقتُلُه. ألا أريك التربة التي يُقتَل بها؟ قال: فقلتُ: بلى. قال: فضرب بجناحه فأتاني هذه التربة. قالت: فإذا في يده تربةٌ حمراء وهو يبكي ويقول: ليت شعري مَن يقتلك بعدي”.
هذا ما ورد في كتب أهل السنة.

وأما الإمام الحسين فيقول عن نفسه: “أنا قَتيلُ العَبرَة لا يَذكُرُني مُؤمِنٌ إلاّ بَكَى”.

ويقول حفيده الإمام الباقر (ع) عن والده: “كَانَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السّلام) يَقُولُ : أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لِقَتْلِ الحُسَيْنِ (عليه السّلام) حتّى تَسِيلَ عَلَى خَدَّيْهِ , بَوَّأَهُ اللَّهُ بِهَا غُرَفاً يَسْكُنُهَا أَحْقَاباً , وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ حتّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ فِيمَا مَسَّنَا مِنَ الأَذَى مِنْ عَدُوِّنَا فِي الدُّنْيَا , بَوَّأَهُ اللَّهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ , وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَسَّهُ أَذىً فِينَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ حتّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ مِنْ مَضَاضَةِ مَا أُوذِيَ فِينَا , صَرَفَ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ الأَذَى , وَآمَنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَخَطِهِ وَالنَّارِ”.

ويقول الإمام الرّضا (ع): “مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا فَبَكَى وأَبْكَى لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي العُيُونُ , ومَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيِا فِيهِ أَمْرُنَا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلُوبُ …”. وقوله: “إنّ يَومَ الحُسينِ أقرَحَ جُفونَنا وأسبَلَ دُموعَنا”.

فالتركيز على الشعائر الرثائية والبكائية هو ما نراه الأصل في أقوالهم وأفعالهم لإحياء الذكرى العاشورائية…
والسؤال هنا: هل هذا هو الهدف من خروج الإمام الحسين؟

بالطبع.. كلاّ.. ولكنّه الباب إلى معرفة الحسين والعلم بأهدافه ثم العمل بما يتوافق مع مرئياته التربوية والنهضوية (ع).. ولذا من العجيب أنّ الذين لا يبكون على مصائب الحسين ولا تحزن قلوبهم له لن تنفتح عقولهم على هذه المعرفة ولن تشدّهم قلوبهم إلى العمل بما يريده (ع). لأن القسوة -التي تعالجها العواطف والدموع- تمنع العقل والقلب من بلوغ حرارة الدم الحسيني التي امتاز بها المؤمنون فقط كما قال النبي الأكرم (ص): “إنّ لدم الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً”.

وبالتأسيس على ثقافة البكاء الواعية المتصلة بوعي المسؤولية الأخلاقية والإبائية نقول هكذا دينٍ -وهو دين الله الحق- قد أراده الإمام الحسين منّا أن ننصره في الحياة، مع الأخذ بعين الإعتبار ظروف الزمان والمكان الصانعة لتكليف المسلم وواجباته العملية.. بهذه الصياغة الدقيقة لفهم القضية الحسينية سار أئمة أهل البيت من ولد الإمام الحسين حماةً للأمانة التي تركها جدّهم رسول الله في أيديهم لهذه الأمة وللبشرية في أجيالها الممتدة.

إننا في إطار هذا المفهوم الشرعي نحلّل سيرة أئمتنا الطاهرين الذين اختاروا طريق المقاومة الباردة أحياناً كثيرة ليفتحوا أبواب الخيارات المتعدّدة لشيعتهم وفق معادلاتهم على الأرض، فلا يتهم أحدُهم غيره إلا إذا كان في موقفٍ مكشوفِ الخيانة ثابتِ البطلان لا يتقبّله أي مَحمِلٍ للخير.

إذا عرفنا هذه المفاهيم التحليلية سنعرف معها الرواية النبوية الحسينية التالية التي نختم بها مقالاتنا العشرة. إذ جاء في رسالة الإمام الحسين (ع) إلى أهل الكوفة:

“أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلًّا لِحُرُمِ اللَّهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَ لَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ.
وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَ تَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَ أَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَ عَطَّلُوا الْحُدُودَ وَ اسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَ أَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَ حَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَ إِنِّي أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ لِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ…”.

هنا يستدلّ الإمام الحسين (ع) بقول جدّه خاتم النبيّين محمد (ص) فيُسقِطُه على مصداقه عصره ويعلن نفسه القائد المؤهَّل لتطبيق تلك القاعدة الكبرى على هذه المصداقية الصغرى.. وبالتالي يعلّمنا شرطين أساسيين من شروط التحرّك وهو:

* وجود القائد المؤهّل
* إستجابة الجمهور لله وللقيادة الشرعية.

أللهم ارزقنا البصيرة العترويّة والروح الحسينية والإستقامة الخالصة لوجهك حتى ظهور وليّك وابن وليّك الإمام الحجة بن الحسن المهدي (صلواتك عليه وعلى أجداده الطيّبين).

أللهم تقبّل منّي هذا القليل من مساهمتي في الدفاع عن صحيح الفكر الحسيني ونفي التحريف عنه وأنت المسدِّد ومنك الهداية ولك الحمد

للاعلى