حقيقة العبودية لله
وضرورتها للعلماء

تلخيص كلمة سماحة العلامة المهتدي لطلاب حوزة خاتم الأنبياء (ص) العلمية في لقائه المفتوح اليوم الأثنين (1/ذي القعدة/1436).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله، والصلاة على رسول الله، وآله الهداة إلى دين الله، واللعنة على أعدائهم أعداء الله، من الآن إلى يوم لقاء الله.

* وأما بعد:

كل الشكر والإمتنان لأساتذة حوزتنا المباركة ولطلاّبنا الكرام وخاصة المُلتحِقين الجدد…

سأبدء كلمتي بقصة رائعة ومنها أنطلق للتذكير بأهمّ بصيرة في الحياة وهو العبودية لله التي لولاها لخسرنا حياتنا مهما كنّا علماء وكان الناس يحترموننا!!

القصّة وقعت في مدينة مشهد المقدسة فترة الحرب العالمية الثانية.. وكانت القوّات البريطانية والروسية تتحاربان في خراسان والإيرانيّون هناك يعانون من آثار الدمار. يقول الطبيب الذي حكى الموقف لأحد كبار العلماء الثقاة الذي رواه لأحد المراجع وهو حكاه لواحدٍ من المراجع الأحياء بأن جريحاً دخل منزلي والرصاصة في أعلى صدره جهة الكتف.. وكان عليه سيماء الصالحين، فطلب منّي إخراجها. قلتُ ليست عندي هنا أدوات التخدير (البنج)، فالأفضل تأتيني المستشفى. قال إذا لديك بقية أدوات العلاج أنا لا أحتاج للتخدير!!
تعجّبت.. ولكنه قال: أخبرني قبل أن تبدأ العملية. فلمّا هيأتُ الأدوية والأدوات أخبرتُه فقرأ بعض الأوراد ونام كالمتخدِّر!!
لم يجلس إلا بعد انتهائي من تخييط مكان الجرح وتضميده ولم يكن يتألّم!!
فقلتُ في نفسي: هذا لا يكون إلا أحد أصحاب الإمام الحجة صاحب الزمان (عليه السلام). فسألتُه.. أجابي قائلاً أنا واحد من السبعة من الصفّ الثالث في أصحابه (روحي فداه) في مشهد الرضا (عليه السلام). سألتُه هل أخبركم الإمام المهدي متى تنتهي هذه الحرب.. فقد أوذينا من كثرة الأزمات وقلّة الطعام و…
قال غداً سيعلن الروس إنسحابهم وتضع الحرب أوزارها.
ودّعني وأنا أنتظر الغد لأرى صدق كلامه. وبالفعل كان كما قال الرجل.

* أيها الأحبة:

أنتم في حوزةٍ تشرّفت باسم خاتم الأنبياء (ص) ونتمنّى أن ينظر إليها حفيده الحجة بن الحسن (ع) بنظرته الراعية والهادية.. إعلموا أن الحياة مرّة واحدة وتنقضي إما إلى الجنة وإما إلى النار ولا ثالث بينهما. فالعاقل يستثمر فرصته للوصول إلى الجنة، خاصة وهو لا يعلم متى موعده مع الرحيل والإنتقال إلى تراب القبر وضيق اللّحد ووحشته وظلمته.

لابد لنا من الدراسة وطلب العلم بما يحقق لنا هذا الفوز.. وهو ما حققه أمثال ذلك الجريح وكل الأولياء. فمن أجل ذلك نقول في هذه الضرورة.. بأن المطلوب منّا:

* أولاً.. إيجاد العبودية لله في النفس بكل صفاء القصد وخلوص النيّة. فالذي يمتلك روح العبودية لله يوفّقه الله في الدنيا ويسعده في الآخرة. يقول الإمام الصادق (ع): “لَوْ أَنَّ شِيعَتَنَا اسْتَقَامُوا لَصَافَحَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَ لَأَظَلَّهُمُ الْغَمَامُ وَ لَأَشْرَقُوا نَهَاراً وَ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ لَمَا سَأَلُوا اللَّهَ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُمْ”. فحتى حوائجنا المادّية تتنجّز من خلال الاستقامة على العبودية لله، لأن الأرزاق كلّها بيده.

* ثانياً.. العبودية لن تكون إلا لمن عرف الله حق المعرفة.. وإلا صار الإنسان كعابد بني إسرائيل يعبد إلهاً من صنع ذهنه فيتفانى في الدعاء لينزل الله من السماء على حماره ليأكل العُشب الذي يتلف في تلك الصحراء من حوله!!
معرفة الله هي الأساس في العبودية له ورفض الباطل والهوى.. وهي لن تكون إلا عند محمد وآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).

* ثالثاً.. لابد من دراسة العقائد الإسلامية عن مصادرها الصحيحة. يقول النبي الأكرم (ص): “أول العلم معرفة الجبّار وآخره تفويض الأمر إليه”.
أجل.. إن لهذه المعرفة علامة مميّزة يستطيع الإنسان بها أن يكتشف سلامة معرفته، تلك هي حالة التفويض والتسليم والرضا لكلّ ما يكتبه الله لنا. وهذا معني العبودية الحقيقية التي كان عليها الأنبياء والأوصياء والصالحون.

* رابعاً.. الدراسة لا تكفي ما لم تقترن بكثرة ذكر الله والتعبّد بالصلاة والدعاء ومراقبة النفس والتفكّر في عظمة الله باستمرار واستشعار أن الله يرانا وأننا نلاقيه من ساعة الموت ويبدأ الحساب.. بهذه الطريقة نزرع الخشية في نفوسنا من سخط الله تعالى فلا نكون من العلماء الذين ظاهرهم صلاح وباطنهم ذئاب.. وقد درسوا في الحوزات وأتقنوا المصطلحات العلمية في الفقه والأصول والفلسفة ولكنهم كما قال الله عزوجل: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

* خامساً.. عندما نكتسب حقيقة العبودية لله ولو بعض درجاته فإننا سنكون مصغَّر النبي الأعظم (ص) بحكم التأسّي وهنالك نستحق أن ينطبق علينا الحديث الشريف: “العلماء ورثة الأنبياء”.
تأمّلوا متى نال نبيّنا العظيم منصب الرسالة؟
لمّا نجح في إثبات عبوديته لله بتلك العبادات العميقة في خلواته الخالصة في غار حراء.
نقول: “أشهد أن محمداً عبده ورسوله” لنتعلّم أولاً أنه كان عبداً ثم صار رسولاً.. وهكذا كلما عرفنا الله حق المعرفة كلما عبدناه بلذّة الإنشداد الروحي.. ثم ترانا كم سيعطينا الله مما أعطى الصالحين من عباده.

* وأخيراً.. فهذه حوزتنا هي ليست للعلم فقط بل للعمل بالعلم لنكون من العلماء الذين يخشون الله ويعملون لخير الناس وهدايتهم وإنقاذهم بإخلاص وأخلاق.
اللهم وفّقنا.. أنت مولانا والحمدلله ربّ العالمين.

للاعلى