هذا هو الإمام الصادق
إن كنتم لا تعلمون!!

بيان بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في (25) من شهر شوال.

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا يلهمنا هذا الحدث الحزين على قلوب محبّيه؟

الجواب طويل.. ومن أصعب الإجابات إختصارها بما يفي الغرض، خاصةً لما يجد الكاتب نفسه أمام شخصية عظيمة متعدّدة الأبعاد مثل شخصية هذا الإمام العظيم.. وبالإختصار أقول:

* أكثرنا نعلم أنه:

كان (عليه السلام) قد تخرّج على يده أكثر من أربعة آلاف طالب إنتشروا في بقاع الأرض وأسّسوا فيها مدارس للعلوم الفقهية والعقائدية والطبية والفلكية والطبيعية والرياضيات والكيمياء والهندسة والعلوم الإنسانية (علم النفس والإجتماع والسياسة).. حتى اعترف مفكّرو الغرب بأن نواة العلم والفكر والإختراع جاءتهم من الإمام الصادق.. حيث عقد في سنة 1968 خمسة وعشرون مفكِّراً من أشهر العلماء والمستشرقين في الجامعات الغربية وأمريكا دورةً لدراسة الشيعة الإمامية وتاريخها العلمي والحضاري، وتحدّثوا عن علوم الإمام الصادق (عليه السلام) بدراساتهم التي طرحوها في المؤتمر، والتي طُبعت في كتاب تحت عنوان (الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب) وترجمه إلى اللغة العربية (نور الدين آل علي).

* وأكثرنا نعلم أنه:

كان في صفاته الأخلاقية متقدِّماً على أهل زمانه.. ومن تواضعه أن رجلاً من ضعفاء الناس كان يرافقه، فافتقده يوماً فسأل عنه، فبادَرَ أحد الرجال هناك بجواب استهان بذلك الرجل قائلاً: إنه نبطي…
فردّ عليه الإمام فوراً: “أصل الرجل عقلُه، وحَسَبُه دينُه، وكرمُه تقواه، والناسُ في آدم مستوون”. فاستحى الرجل ونكص رأسه!!

* وأكثرنا نعلم أنه:

كان مثال الجود والكرم.. ومنها صدقاته في السرّ.. فقد روى إسماعيل بن جابر قائلاً: أعطاني أبو عبد الله (عليه السلام) خمسين ديناراً في صُرّة، وقال لي: إدفعها إلى شخص من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتُك شيئاً. فأتيتُه ودفعتُها إليه. فقال لي: مِن أين هذه؟ فأخبرتُه أنها مِن شخصٍ لا يقبل أن تعرفه. فقال العلوي: ما يزال هذا الرجل كل حين يبعث بمثل هذا المال، فنعيش بها إلى قابل، ولكن لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله!!

* وأكثرنا نعلم أنه:

كان يعفو ويسمو بنفسه عن القطيعة.. يتسامح ويحسن إلى من يجهل عليه. روي أن أحد الحُجّاج توهّم أن هميانه ضاع منه، فرأى الإمام (عليه السلام) يصلي هناك فتعلّق به وهو لم يعرفه، فقال له: أنت أخذت همياني؟!
فقال له الإمام برفق: كم كان فيه؟
قال: ألف دينار. فأعطاه الإمام ألف دينار. ومضى الرجل عائداً إلى مكانه حتى وجد هميانه. فعاد إلى الإمام معتذراً منه، ومعه المال، فأبى الإمام قبوله، وقال له: شيء خَرَجَ من يدي فلا يعود إليّ. فبهر الرجل وسأل عنه، فقيل له: هذا جعفر الصادق، وراح الرجل يقول بإعجاب: لا جَرَمَ هذا فعال أمثاله.
وهو القائل (عليه السلام): “إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمّن ظَلَمَنا”.

* وأكثرنا نعلم أنه:

كان من أعبد الناس لله، وكان مثالاً بينهم في الطاعة والإخلاص له عزوجل. وكان إذا أراد التوجّه إلى الصلاة اصْفَرَّ لونُه، وارتعدت فرائصُه خوفاً من الله ومن شدّة خشيته.

* وأكثرنا نعلم أنه:

كان يحثّ الصائم على العبور بصومه إلى أهداف الصيام التربوية ويقول: “وإذا صمتَ فليصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك من القبيح والحرام، ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك مثل يوم فطرك سواء”.

* وأكثرنا نعلم أنه:

قد حَجّ مرّات عديدة وكان بين الحُجّاج أميرُهم المرشد ويعلّمهم أحكامه وبدعائه يعلّمهم كيف يتعبّدوا. يقول بكر الأزدي: خرجت أطوف، وإلى جنبي الإمام الصادق (عليه السلام) حتَّى فرغ من طوافه ثم مال فصلى ركعتين بين ركن البيت والحجر، وسمعتُه يقول في سجوده: “سَجَدَ وجهي لك تعبّداً ورقّـاً، لا إله إلاّ أنت حقاً حقاً، الأول قبل كلّ شيء، والآخر بعد كلّ شيء، وها أنا ذا بين يديك، ناصيتي بيدك، فاغفِر لي إنه لا يغفر الذنبَ العظيم غيرُك، فاغفِر لي، فإني مُقِرٌّ بذنوبي على نفسي، ولا يدفع الذنبَ العظيم غيرُك”. ثم رفع رأسه الشريف، ووجهه كأنما غُمّس في الماء من كثرة البكاء.

* ولكن هل أكثرنا يعلم أيضاً:

أنه (عليه السلام) أنجز ذلك النجاح المحوري المتميّز وهو في أعقد العصور التي مرّت على الإسلام والمسلمين.. وكانت فيه صناعة الموقف الحكيم من أصعب المسؤوليات المصيرية؟!

فلنقرأ لمحةً من هذا العصر لنكتشف بعض ما لهذا الإمام من عظمةٍ وحكمةٍ في إدارة الصراع لم يكن لها سواه.

لقد عاش الإمام (عليه السلام) في نهايات الحكم الأموي والبلاد الإسلامية عمّتها الإضطرابات المتعدّدة، والحروب فتكت بجسم الأمة نتيجة الظلم السياسي والفساد الأخلاقي والضعف العقائدي.. وأخذ ثوّار بني العباس يقودون المسلمين الغاضبين لإسقاط الدولة الأموية تمهيداً لاستيلائهم عليها، فانشغلوا بمطاردة أعوان الحكم البائد وتثبيت مواقعهم الجديدة ونال الشيعة من أبناء الحسن والحسين بطشاً شديداً لخوف الطرفين (الأموي والعباسي) من أن ينافسوهم على الخلافة الجديدة.

في عصر الأمويين انشغل المسلمون بالفتوحات العسكرية وانشغل حكّامهم بلذّاتهم وصراعاتهم الداخلية.. فآلت الحالة الفكرية إلى ركود خطير ومع دخول شعوب جديدة إلى الإسلام أو في حاضنة المجتمع المسلم انتشرت أفكارهم الفاسدة بين المسلمين عبر حركة الترجمة، وزادت هذه الموجة بقيادة العباسيين فكانت للثقافة الفارسية والفلسفة اليونانية النصيب الأوفر في سعيهم للتزاوج بينها وبين الإسلام الذي فهموه مقلوباً.

فكان على الإمام (عليه السّلام) أن يتصدّى لنتائج تلك المفاسد السياسية والإنحرافات الفكرية التي تصدّى لها آباؤه بالتدريج وأبوه الإمام الباقر (عليه السلام) خاصة وهو لم ينس ما جرى على جدّه الإمام علي والحسن والحسين في العمل السياسي المباشر وضعف الدعم لهم من المجتمع الشيعي المتأزّم والمُنقسِم، فاختار التأسيس لمرحلةٍ تحتاجها كل أمةٍ لإعادة أنفاسها ثم التموضع الجديد بقوّتها الذاتية.. تلك هي الحاجة إلى التصحيح المعرفي وبناء العقل الإسلامي.. وهو ما عمل له الإمام الصادق لتأهيل جيل يحمل العلوم في شتى الأبواب وينتج أجيالاً واعية لمسؤولياتها في كل الأزمنة والأمكنة.

وكان من أهمّ التحدّيات أمامه (عليه السلام) هو موقفه السياسي من السلطات.. فقد اعتمد نظرية الجهاد السلبي بِضِلعَيها (المقاطعة) من جهة و(عدم المواجهة الصريحة) من جهة أخرى.. وهذا هو التفسير الدقيق لدعوة شيعته إلى ممارسة التقية التي قال عنها: “التقية ديني ودين آبائي”.. وهي تعني عنده العمل الإيجابي بعيداً عن دعم المشروع الآخر ولو بمقدار اللقاء بالحاكم ما لم يُجبَر عليه، فكان إذا أُجبر يصعقه ببعض الكلمات المدروسة بذكاء. يقال مثلاً ذات مرّة أحضره المنصور العباسي عنده وإذا بذباب أخذ يؤذي المنصور على وجهه، فسأله مستنكراً: يا أبا عبدالله لماذا خلق الله الذباب؟!
فأجابه الإمام فوراً: “ليذلّ به الجبّارين”!!
ومرة أخرى أحضره ليهينه.. فردّ عليه الإمام قائلاً: “أنا فرعٌ من فُرُع الزيتونة، وقنديلٌ من قناديل بيت النبوّة، وأديبُ السَّفَرة، وربيبُ الكرام البررة، ومصباحٌ من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفَين إلى يوم الحشر”.
وانشغل عنه المنصور العباسي فترةً طويلة حتى كتب إليه: لِمَ لا تَغشانا كما يغشانا سائر الناس؟
فأجابه: “ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟!
فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه (عليه السلام): “من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك”.
تكرّرت مثل هذه المواقف بينهما حتى قرّر اغتياله بالسمّ.. فقال له الإمام بصريح الكلمة وهو يعلم ما يجول في ذهن الطاغوت: “إنه لم ينل أحدٌ منا أهل البيت دماً إلا سلبه الله مُلكه”. وهكذا حصل بالفعل.

* نقول في الختام:

كم لنا أن نفخر بهذا الإمام في عباداته الربّانية ومنزلته العلمية وحكمته السياسية وأخلاقه الإجتماعية وشجاعته المبدئية وعطائه الهادي للأمة وللبشرية إلى يوم القيامة.. حتى قال فيه علماء المسلمين من السنة والشيعة: «جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه».
وقال عنه الفيلسوف العربي ابن خلدون: «ولو صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صحّ أنه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول».

وكيف لا يجوز لنا أن لا نفخر به وقد أكمل دور أبيه وآبائه وجدّه النبي محمد (عليه وعليهم الصلاة والسّلام) عقائدياً وفقهياً وسياسياً وتربوياً بأروع إكمالٍ وتدبير.. فأعاد للإسلام روحه ونظّم قواعده ورتّب أسسه في أطر علمية مدوّنة مكتوبة، منتزعاً هذا النجاح التأسيسي الكبير من محيط الفوضى الدموية ومن بطن الظلم والفتن والإضطرابات والمؤامرات، فبينما الدول تصارعت وانتهت، وجيوشها تحاربت واندثرت، وأهل الدنيا والقيل والقال ماتوا بالخزي والعار.. نجد اليوم الراية (الجعفرية) برؤيتها (الصادقية) عاليةً في الحياة ترفرف بنسيم البشارة لخلاص المستضعفين تحت القيادة (المهدوية) بإذن الله.

هكذا وقف إمامنا الصادق وقفة القائد الفطن ناظراً من أعلى مرتفعات الحوادث الواقعة حوله.. شاهداً على زمانه.. واعياً لحاجة أمّته.. مستصغراً حكام بلاده.. غير آبهٍ بتوافه المشاكل لجهّال مجتمعه.. ولم يتهاون في عبادته وأخلاقه وتعليم الناس وتربية كوادره.. مستعداً للقاء الله بالشهادة في سبيله…

فمثله جدير به أن يقول مفتخراً: “الحمد لله الذي لم يُخرجني من الدنيا حتّى بيّنتُ للناس جميع ما تحتاج إليه”.

وجدير بنا التأسّي به.. والإلتزام بوصيته:

” أدّوا الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإنّ رسول الله كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلُوا عشائرَكم واشهدوا جنائزَهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقَهم، فإنّ الرجل منكم إذا وَرَعَ في دينِه وصَدَقَ الحديث وأدّى الأمانة وحَسَّن خُلقَه مع الناس قيل هذا جعفريّ ويسرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دَخَلَ عليّ بلاؤه وعارُه وقيل هذا أدب جعفر، فوالله لحدّثني أبي أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ فيكون زَينُها أدّاهُم للأمانة وأقضاهُم للحقوق وأصدقُهم للحديث”.

الملتمس لدعائكم..
داعيكم:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
25/شوال/ 1436

للاعلى