العلم، العلماء، والعمامة

تلخيصاً لكلمة سماحته في حفل التتويج الثالث لطلاب حوزته (حوزة خاتم الأنبياء -ص- العلمية) في البحرين. والذي أقيم في مأتم مدينة عيسى ليلة الجمعة (16/شعبان/1436) 2015/6/3م

بسم الله الرحمن الرحيم

إستضاءةً من قوله عزوجل: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يشرّفني التحدّث إليكم في هذه المناسبة السعيدة من خلال ثلاث محاور:

◈ المحور الأول (العلم)

ما هي أهمية العلم وما هو نوع العلم الذي يحث عليه الإسلام؟

غير خافية أهمية العلم في حياة الإنسان، فالبشرية منذ أولها جُبِلَت فطرتُها على حُبّ العلم حتى ترى الجاهل يغضب لو قيل له أنت جاهل!!
ولذلك قال الله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

إن هذه الحقيقة مغروسة في الفطرة وإنما يتذكّرها أصحاب الألباب حصراً كما تفيده لفظة (إِنَّمَا).. واللّبّ هو العقل، ومفهومه العكسي أن الذي جَمَّدَ عقلَه ينسى هذه الحقيقة الفطرية أو يرغمها بالتجاهل.
ويأتي حثّ الإسلام على طلب العلم إنطلاقاً من حرصه على التأسيس الواعي لكرامة بني آدم.. فهذا نبيّنا الأكرم الذي قال: “وبالتعليم أُرسِلتُ” يربط قيمة الإنسان بمقدار علمه قائلاً: “أكثرُ الناس قيمةً أكثرُهم علماً”. وليس ذلك إلا لأنهم طبّقوا أمر الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).

يقول أهل العلم أنّ شرف كل علم بشرف موضوعه، فموضوع علم الطب هو جسم الإنسان، وموضوع علم الهندسة هو الحجر والبناء، وموضوع علم الأغذية هو طعام الإنسان، وموضوع علم السياسة هو إدارة شؤون الناس، وموضوع علم النفس هو صحة الفرد النفسية، وموضوع علم الإلكترونيات هو أجهزة الحاسوب، وموضوع علم الإقتصاد هو المال والإستثمار…
وكل ذلك جيّد جداً.. بل وضرورة تُكسِبُ صاحبَها قيمةً ومقاماً على قدر قيمة ومقام الموضوع الذي تدور حوله مسائلُه، ولكن ما هو موضوع علم الدين؟
جاء الدين الإسلامي الحنيف ليثير في الناس دفائن عقولهم ويوثّق العلاقة الإيجابية بين الإنسان وخالقه العظيم، ويُحي الضمائر بفطرتها الإنسانية، ويربّي النفوس وفق مبادئ الأخلاق الكريمة، ويعمّق الدعوة المتواصلة إلى الخير ونبذ الجريمة، ويشجّع على العمل الدؤوب في إرشاد الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والبشرية وتأكيد الإلتزام بقيم المحبّة والسعادة والأمن والعدالة كأصول ثابتة لحياة طيّبة.
ولأن هذه الأهداف للدين أكبر من أهداف تلك العلوم المادية كان العلم بمسائله أشرف من العلم بمسائل هذه العلوم، لذلك جعل الله مَن يحمل علوم الدين في خط واحد بينه عزوجل وبين الملائكة حينما شهدوا جميعاً بوحدانيته وبأنه سبحانه قائمٌ بالقسط حيث قال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ).

بناءاً على هذا المفهوم قد فرض علم الدين أفضليته عند الله وصار المؤمنون بالله يحترمون حامليه، ولا نعني حذف هذه العلوم بل تصنيفها في الدرجات الأخرى بعد علم الدين.
من هنا ورد في الحديث عن معاوية بن عمار قال: “قلتُ لأبي عبدالله -الصادق- (عليه السلام): رجلٌ راوية لحديثِكم يبثّ ذلك في الناس ويشدّه في قلوبِهم وقلوب شيعتِكم، ولعلّ عابداً مِن شيعتِكم ليس له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ قال: الراوية لحديثنا يشدّ به قلوبَ شيعتِنا أفضل مِن ألف عابد”.
فللعابد فضل بلا شك ولكن العالم الذي يرفع معنويات شيعة أهل البيت ويسدّد سلوكهم برواية أحاديثهم هو الأفضل.

◈ المحور الثاني (العلماء)

مَن هم العلماء الذين يؤيدهم الإسلام؟

يقول الله عزوجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).. وأداة الحصر في الآية (إِنَّمَا) تفيد بأن الذي لا يخشى الله فهو جاهل بلا نقاش!!

سؤالٌ يفرض نفسه: إذن علماء السوء وأصحاب فتاوى التكفير والذين يطبّلون لسفك الدماء.. أليسوا علماء؟

الجواب: بالمعيار الإلهي.. كلا. فإبليس أيضاً كان أعلم منهم وأكثر عبادة لله وقد تمّ طردُه ولعنُه ورجمُه!!
وهذا المعيار يؤكد بوضوح على أن العالم ليس بعلمه وإنما بطاعته لله وخشيته منه وخوفه من معصيته عزوجل. لذلك لا يأمر القرآن الكريم بمطلق القراءة بل يقيّدها بأن تكون باسم الربّ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وهكذا ترى أميرالمؤمنين (عليه السلام) يعبّر عن هذا العالم ب(الربّاني) في قوله لصاحبه كميل بن زياد النخعي: “يا كميل إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها.. فاحفظ عنّي ما أقوله لك: الناس ثلاثة: فعالمٌ ربّاني.. ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة.. وهَمَجٌ رُعاع، أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كل ريح، لا يستضيئون بنور العلم فيهتدوا، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق فينجوا”.

ولم يترك أئمتُنا الأطهار (عليهم السلام) بيان الصفات التي تميّز علماء الدين الربّانيّين عن غيرهم المزيّفين، فقد قدّموا لنا منهجاً نكتشف به أولئك الصالحين لنتمسّك بهم مهما حمّلونا من مسؤوليات.. ونكتشف به هؤلاء الطالحين لنتجنّبهم مهما اختبؤا خلف شعارات برّاقة أو كلمات معسولة.
من هذا المنهج أن نعرف صفات العلماء الصالحين كما في قول الإمام الصادق (عليه السلام): “إنا لَنُحِبُّ مِن شيعتنا مَن كان عاقلاً عالماً فَهِماً فقيهاً حليماً مدارياً صبوراً صدوقاً وفياً”. وعليه فالذين لا يتصفون بهذه الصفات هم الذين لا يحبّهم أهل البيت (عليهم السلام) وبالتالي لا يجوز للشيعي أن يحبّهم.

ويؤكّد الإمام أيضاً في الحديث التالي نفس هذه الآلية كيلا ينخدع أحدنا بمظاهر علماء السوء أو يبرّر إنقياده للفاسدين.. يقول (عليه السلام): “لَيسَ العِلمُ بِكَثرَةِ التَّعَلُّمِ، إنَّما هُوَ نورٌ يَقَعُ في قَلبِ مَن يُريدُ اللهُ أن يَهدِيَهُ، فَإِذا أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوَّلًا في نَفسِكَ حَقيقَةَ العُبودِيَّةِ، واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِهِ واستَفهِمِ اللهَ يُفهِمكَ”.

وفي سياق هذا المنهج أيضاً ينقل الإمام الكاظم (عليه السلام) ممّا وعظ به النبي عيسى (على نبيّنا وآله وعليه السلام) قائلاً: “بحقٍ أقول لكم: إنّ الناس في الحكمة رجلان: فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله، فشتّان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول”.

◈ المحور الثالث (العمامة)

ماذا تعني العمامة وما الحاجة إليها؟

يجب أن نعلم بأن العمامة كانت جزءاً من الزيّ القديم لدى المسلمين في صدر الإسلام.. ثم انفصل زيُّ بعضهم بالتدريج فمنهم مَن استبدله بالثوب والعِقال عربيا،ً ومنهم مَن لبس الكوت والبنطلون وربطة العنق غربياً.. وبقيت فئات من الناس في مثل أفغانستان وباكستان واليمن وسلطنة عمان والسودان وما أشبه ملتزمين بالعمامة كزيّ شعبيّ، وأما علماء الدين فثبتوا عليها مع استبدال الرداء بالعباءة ثم زيدت عليهما الجُبّة ربما خلال القرون الثلاثة المنصرمة.

هذا الزيّ قد أصبح اليوم خاصاً لمَن يدرس علوم الدين على نحو التخصّص من أي باب كان.. إبتداءاً من الفقيه المرجع ومروراً بالعلماء الفضلاء وانتهاءاً بالخطباء الحسينيين. وهو علامة لتسهيل مراجعة الناس إلى مَن يهمّه الأمر في الشأن الديني.. كالأطباء والممرّضين والشرطة والرياضيين على سبيل المثال حيث يلبسون زيّاً خاصاً بهم ليعرفهم الناس. وهنا يوجد فارقٌ بين زيّ المعمَّمين وزيّ غيرهم، ذلك هو استغلال المزيّف لزيّ العمامة، فبينما توجد رقابة قانونية في الأزياء الأخرى نعاني نحن المعمّمون من معمّمين مزيّفين وقد يكونوا بدافع شخصي بحثاً عن احترام الناس واستعطافاً لمساعدتهم مالياً، وقد يكونوا بدافع سياسي.. حينما تُلبِسُهم أجهزة المخابرات كما في بعض الدول فتدسّهم في الحوزات العلمية وتزرعهم بين الناس لتخريب الأفكار ونشر الخلافات والتجسّس…

من هنا كان لابد للعلماء الأجلاء في الحوزات العلمية وفي بيوت المرجعيات الدينية أن ينتبهوا فلا يضعوا العمامة على رؤوس أشخاصٍ لم يتأهّلوا بالإمتحان العلمي والسلوكي وبالمعلومات الشخصية عنهم.

بهذه الآلية يمكن فرز المعمَّم الأصيل عن المعمَّم الدخيل وتساندهم آلية الأثر الدالّ على المؤثر.. وهي القاعدة العقلية التي يمكن اعتمادها لصيد المزيّفين وتحذير الناس منهم عبر النظر إلى أعمالهم ومراقبة إنتاجهم وآثارهم.

فالحاجة إلى العمامة إذن لكونها علامة لرجوع الناس إلى أهل التخصّص الديني.. والواجب فيها وضع آلية لقطع الطريق على المتسلّقين، إما عبر المراجع العدول والعلماء الربّانيين في عدم تعميم الشخص إلا بعد التحقيق عنه، وإما عبر الجمهور الواعي لصفات العالم الصالح وتطبيقها على المعمّمين الذين يُراد كشفهم، ولكن لكيلا يُتّهَم الأبرياء يجب التشاور هنا مع العالم الثابت صلاحه وتقواه وحكمته. ومن دون هذا الموقف سيختلط على الناس الحق والباطل فيضيع دينُهم ويخسروا آخرتهم -والعياذ بالله-.

هذا ودمتم في رعاية الله وعناية المولى بقية الله صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فَرَجَه الشريف).. وشكراً لإدارة الحوزة التي أنتجت هذا الإنجاز الكبير.. والشكر موصول لإدارة هذا المأتم الكريم على استضافته لهذا الحفل المبارك.. جزاهم الله خيراً ووفّق هؤلاء الطلاب الأعزاء لمواصلة الدراسة وبلوغ قمم العلم والعمل معاً.

للاعلى