البعثة النبوية
والإنبعاثة المهدوية
مشروع مبدئيٌّ واحد

تلخيصاً لكلمة ألقاها سماحته بمناسبة المبعث النبوي الشريف في حسينية أهل البيت (المحرق-البحرين)
27/رجب/1436

بسم الله الرحمن الرحيم

في البدء.. هذه ليلة (27) من شهر رجب وهي ذكرى المبعث النبوي الشريف وليست معها ذكرى الإسراء والمعراج، فالإسراء وهي حركة أُفُقيّة لرحلة النبي (صلى الله عليه وآله) الأرضية والتي تلتها حركة عمودية له بالعروج إلى السماء كانتا بعد المبعث بثلاث سنوات كما يقول الإمام علي (عليه السلام) وحدث ذلك في شهر رمضان وفي ليلة القدر، وآيتها صريحة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى…ُ) بينما المبعث الشريف كان في غار حراء وآيته (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
فعلى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أن لا يخلطوا بين المناسبتين ولا ينسوا أعمال هذه الليلة وأدعيتها التي تؤكد أيضاً على الفصل بينهما.

بعد هذا التمهيد..
تتجه كلمتي بمناسبة المبعث الشريف نحو بيان أهداف النبي محمد المبعوث رحمةً للعالمين.. وهي ثلاثة:

1/ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ.
2/ َيُزَكِّيهِمْ.
3/ َيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.

* أولاً.. تلاوة الآيات

كل بناء قويم يجب أن تكون أُسُسُه قويمة.. فالإسلام دين الحياة وجاء لتنظيم شؤون الإنسان والأسرة والمجتمع والدولة والأمة بكل تفاصيلها.. ومثل هذا المشروع العالمي الكبير لابد له من أسس عقائدية.. أوّلها معرفة الله والإيمان بوحدانيته وصفاته كما بيّنها هو وليس كما يتصوّره المخلوق.. ويمكننا عبر فهم معاني أسمائه 99 الحسنى بلوغ جانبٍ من بحر العلم بالعقائد والذي يجب أن يكون فهماً برهانياً وليس بالموروث العائلي. والآيات التي أمر الله نبيّه الحبيب المصطفى بتلاوته على الناس هي البراهين الدالّة على المبدأ والمعاد.. وهذه واحدة منها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ… رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ).

يقول الفقهاء يجب على الفرد المسلم أن يتعلّم العقائد بالدليل. وأنا أذكر قبل 40 عاماً لما كنتُ في 15 من شبابي أدرس في النجف الأشرف سنة (1975) قرأتُ كتاباً إسمه (الله يتجلّى في عصر العلم) تأليف 40 عالماً في مختلف التخصّصات يثبتون وجود الله وعظمته بأدلّتهم المتعدّدة.
لذلك أدعو الشباب إلى قراءة كتبٍ في العقائد الإسلامية لكي يبنوا أفكارهم وأفعالهم على قواعد صلبة لا تهزّهم الشبهات التي يثيرها أعداء الدين والهمج الرعاع أتباع كل ناعق.

* ثانياً.. تزكية النفس

النفس هي العالَم الباطني الذي يعكس بآثاره على ظاهر السلوك.. فإن طابت طاب السلوك وإن خبُثت خَبُث السلوك. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

فالصفات النفسية هي الخلفية لمواقف صاحبها.. مثلاً -كما ستلاحظون في الرواية التالية- الإيمان الحقيقي في النفس يفرز الأمانة في السلوك.. والإسلام الحقيقي في النفس يفرز السلمية في المواقف.. والهجرة عن الخباثة النفسية تفرز الهجرة عن السيئات الفعلية.. وهكذا…

دقّقوا في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا أُنبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم، وأموالهم، ألا أنبئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده. والمهاجر من هجر السيئات، وترك ما حرّم الله. والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه، أو يخذله، أو يغتابه، أو يدفعه دفعة».

فلابد لنا من الإهتمام بالصحة النفسية كيلا تفضحنا في سلوكنا أمام الناس. فرسول الله يريدنا أن نربّي أنفسنا ونصلح ما بداخلنا ونزكّي سرائرنا ولا نعيش بظنون سيئة في التعامل مع الآخرين فنبني ضدّهم مواقف بدافع الجهل والحسد والأمراض النفسية.

* ثالثاً.. تعليم الكتاب والحكمة

تعليم الكتاب (القرآن) في علومه المتنوّعة هو الهدف الثالث من بعثة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم). ولا يكفي علم الكتاب بل ولابد معه الحكمة.. كيلا نرى عالماً لا يحسن التصرّف.. أو طبيباً لا يعرف الرحمة يعالج المريض الفقير بمبالغ كبيرة كما يعالج الغنيّ بنفس المبالغ.. ولكنه لو كان ذا حكمة كان لا يأخذ من الفقير بل ينفق عليه من الأموال التي جَمَعَها…

إن العلم والحكمة ضرورتان في التعلّم.. وعلى شبابنا أن يدرسوا وأن يتفكّروا حتى ينضجوا فيوزنوا الأمور من حولهم ويخططوا في تطوير مستواهم العلمي ورشدهم العملي.

لذلك كانت الآية الأولى التي جاء بها جبرئيل في غار حراء للنبي محمد في يوم المبعث: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

إذن.. للبعثة النبوية ثلاثة أهداف مترابطة وبها قام نبيّنا العظيم بتغيير حياة البشرية وليست حياة المسلمين فقط.. ولا تنظروا إلى المتخلّفين الحمقى الذين شوّهوا صورة الإسلام.. بل أنظروا إلى الجوانب المشرقة الكثيرة التي اعترف بها فلاسفة الغرب مثل (برناردشو) و(غوستاف لوبون) و(توينبي) و(مايكل هارت) (جاك آتالي) عن تأثير النبيّ في مسيرة التاريخ الأنساني منذ بُعِثَ ونشر الفكر الحضاري في العدل والإنقاذ.

وهنا في نهاية كلمتي:

أشير إلى مسألة هامّة.. وهي أن الجاهلية بعد أن دفنها رسول الله قد خرجت من قبرها وعاثت في الأرض الفساد وإلى يومنا.. فهل هنالك رجل من سلالة هذا الرسول الكريم سينجي البشرية من ويلات الجاهلية الجديدة؟!

نعم.. هو حفيده الإمام المهدي (عليه السلام) الذي سيقلّده الله عزوجل قيادة الإنبعاثة المحمّدية الجديدة.. فلنستعد للإيمان به والعمل معه كما آمن به الإمام علي والسيدة خديجة (عليهما السلام) وكل الصالحين من الصحابة وعملوا معه (صلى الله عليه وآله).

هذا ما أرادته الآية الأخرى بعد آية المبعث التي تلوتُها في بداية كلمتي: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كم هذا الإسلام ممنهج في رؤيته للحياة وفَطِنٌ في بناء الأجيال لمشروع مبدئيّ واحد.. أوله محمد بن عبدالله (النبي) وآخره محمد بن المهدي (الحجّة)؟!

أسأل الله تعالى أن نلتزم به لتحقيق المستوى الذي أراده لنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا قال: «ألا أُخبركم بأشبهكم بي؟
قالوا بلى، يارسول الله. قال: أحسنكم خُلُقاً، وألينكم كفاً، وأبرُّكم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب».

أللهم وفّقنا للإنبعاثة المهدوية الموعودة كما وفّقتَ الصالحين من قبلنا للبعثة النبوية الشريفة.

للاعلى