بيان سماحته الذي صدر حول الزحف الأربعيني إلى كربلاء الحسين (عليه السلام) بعنوان:

* في الإستعداد
لإحياء الأربعين الحسيني..
ما لنا من بركات،
وما علينا من واجبات…

بسم الله الرحمن الرحيم

وأما بعد:

يا سيّدي يا أبا عبدالله الحسين.. قتلوك قبل ألفٍ وثلاثمئة وخمسة وسبعين سنة وسحقوا بدنك الطاهر تحت سنابك الخيول، وظنّوا بجهلهم أنك ستنتهي بجاهليتهم.. ولكن هيهات أن ينتصر الشرّ على إرادة الله التي شاءت أن تكون ثأره.
قتلوك.. وإذا بشيعتك حملوك في قلوبهم جيلاً بعد جيل.. يُحيون ذكراك عاماً بعد عام من عاشوراء إلى الأربعين.. وأنت تدعو لهم في كل حين!!
وها هم اليوم جاؤوك زحفاً سيّدي ومن كل العالم في مليونية الأربعين الخالدة يمتثلون ما أراده الله منهم من المودّة لقربى جدّك الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) رغبةً في المقام الذي خصّه الله لهم في زيارتك. حيث روى عبدالله بن مسكان: شهدتُ أبا عبدالله (الصادق عليه السلام) وقد أتاه قوم من أهل خراسان فسألوه عن إتيان قبر الحسين (عليه السلام) وما فيه من الفضل؟ قال: حدّثني أبي عن جدّي أنه كان يقول: “مَن زاره يريد به وجه الله أخرَجَه الله من ذنوبه كمولود ولدته أمُّه. وشَيَّعته الملائكة في مسيره.. فرفرفت على رأسه، قد صفّوا بأجنحتهم عليه حتى يرجع إلى أهله، وسألت الملائكة المغفرة له من ربّه وغشيته الرحمة من أعنان السماء، ونادته الملائكة: طِبتَ وطاب مَن زُرتَ. وحُفِظَ في أهله”.

سيّدي هذا بعض ما لزوّار قبرك من بركات عظيمة عند الله.. وهي لا تُعطى إلا لمن التزم بشروطها واستحضر واجباتها في وعيه وسلوكه باستمرار..

فيا أيها الأربعينيّون.. يا مَن والَيتُم محمداً وآل محمد وركبتُم سفينة الحسين الأسرع والأوسع.. تعالوا إذن ولنستذكر واجباتنا من وحي هذه الذكرى كي نستلهم منها رسالة المرحلة ومسؤولية الموقف وشروط البركات:

* أولاً: لا تقفوا في معرفة الإمام الحسين عند حدٍّ والطريق سالكٌ أمامكم في مستوياتها الأرفع والأشمل.. إقرأوا عن أفكاره وأهدافه وأخلاقه، وكيف كانت عباداته، وما هي توجيهاته في صناعة الشخصية العقائدية والأسرة السعيدة والمجتمع الإنساني والدولة الصالحة والأمة الراشدة، فللحسين مشروعه المتكامل في جميع هذه الأبعاد الحياتية والإنسانية والحضارية، حينما تزورونه بهذه المعرفة وحقّه المفروض على الأمّة فستكون زيارتكم في أعلى درجات القبول والبركات، وإلا فهي تبقى ناقصة. أما تطمحون في الوصول إلى المقام الذي قال عنه الإمام الرِّضا (ع): مَن زارَ الحسين بن عليٍّ عليهما السلام عارفاً بحقِّه كان مِن مُحدِّثي الله فوق عرشه، ثمَّ قرء: «إنَّ المتَّقين في جَنّاتٍ ونَهَرٍ * في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر».

* ثانياً: وأنتم تستعدّون للسفر وتتحرّكون مشاةً أو ركباناً إلى مرقده الشريف تأمّلوا في مؤهلات الإستجابة لندائه الممتد فوق العصور: (هل مِن ناصِرٍ يَنصُرنا…). ومن تلك المؤهلات أن نرتقي إلى صفات أصحابه الذين استجابوا له ولم يتركوه لما كانوا في:

1/ نقاءٍ إيماني بالله يدعمون إيمانهم بالتقرّب العبادي والخشية من سخطه إذا عصوه.
2/ معرفة مقام الرسول وأهل بيته عند الله في الولاية لهم بالطاعة والبراءة من أعدائهم بالرفض.
3/ التفكير المستمر في نهاية هذه الحياة وكيف ينتزعوا منها حُسن العاقبة وهم ذاهبون إلى نتائج أعمالهم.

* ثالثاً: لا شك أن الإختلاف بين الشيعة ضرورة لكشف دفائن الأشخاص وحقيقة الإتجاهات، ولهذا جعله الله من سننه في الحياة وبنى عليه الثواب والعقاب، إلا أن الضرورة نفسها تفرض عليكم الحذر من السموم التي تستهدف الموالين للحسين.. وهي على نوعين:

+ نوع صادر عن المشكّكين الذين افتتنوا في تفريغ الشعائر الحسينية عن حرارة دم الحسين.. إنهم على السراب يهرولون وستبتلعهم الخسارة والندم إن استمروا على أوهامهم في الحرب على الشعائر الحسينية وقد وعد الله بنصرها كما نَصَرَ صاحبها أبا عبدالله الحسين..
+ ونوع صادر عن الذين يفرّغون الشعائر من بياناتها التربوية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية، وهؤلاء يفتقرون إلى معرفة الحسين حق معرفته وتلك المؤهلات التي كان عليها أصحابه.

ولكنّ السؤال: هل من ضوابط قرآنيةٍ عترويةٍ قد تبلورت عبر حُجّة العقل الموجَّه بحُجّة الشرع؟
نعم وهي المعايير التي يمكننا تشخيص المصاديق الأصيلة للشعائر عن المصاديق الدخيلة.. والجامع لها هو كل ما يؤدي منها إلى الحزن والبكاء والإبكاء وتقوية المودّة لقربى الرسول، وإلى إذكاء روح الفداء واكتساب التقوى وجمال الأخلاق وصناعة الموقف الإبائي من طواغيت الأرض..

من هنا فأيّ سلوكٍ في الشعائر لا يضمن هذه الغايات فهو دخيل عليها يجب الحذر منه.

وعند الإختلاف فإنّ الحاسم هو الإستفتاء من أي مرجعٍ ولائي عارفٍ بزمانه.

* رابعاً: اللطميات والدموع وقراءة كلمات الزيارة بالسلام على الإمام (أرواحنا فداه) ثم التسوّق لشراء هدايا (الصوغة) للأهالي.. كل ذلك جيّد، ولكنّ الأجود هو الذهاب إلى باطن الزيارة والنزول إلى عمقها، فهناك تنتظرنا هدايا من نوعٍ آخر.. وهي التي حملتها بطلة كربلاء السيّدة زينب من زيارة الأربعين عائدةً إلى مدينة جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله).. فلنحمل أيها الزوّار الكرام رسائل العقيلة زينب في هداية الإنسان ومسؤولية التغيير وفريضة الدفاع عن الشعائر التي أرادتها -عليها السلام- سياجاً يحمي أهداف الحسين وسبيلاً يهدي إلى قيمه الإسلامية.

إذن.. فهل سنكون زينبييّن هكذا عند رجوعنا إلى الأهل والأوطان أم سنكتفي بظاهر الزيارة؟!

* خامساً: كان الحسين (عليه السلام) واعياً لأفعاله وأقواله وعارفاً بزمانه وما يحتاج إليه الناس، ومن هذا الواقع صَنَعَ نهضته التي حارت فيها العقول وكسب بها قلوب ملايين الملايين عبر التاريخ.. فعلى الحسينيين أن يتأسّوا بإمامهم (عليه السلام)، وإنّ أقلّ التأسّي هو فَهمُ الصراع الدولي اليوم ومعادلاته الإقليمية وآثار اللعبة الإستكبارية في محيطنا.. فهل سأل أنفسنا عن واجباتنا في سُلَّم الأولويات وهذا ديننا وشرفنا مهدَّد بالمخاطر الحقيقية؟!
فأحداث العراق وسوريا والمنطقة بأسرها، وظهور الدواعش والتحالف الدولي و… كلّها أمور يحتاج وعيها الحقيقي إلى خبراءٍ مؤمنين يجلسون لدراستها ثم تقديم مرئياتهم إلى كبار المراجع ورجال الساحة كي يصبّوا اهتماماتهم في معالجة التحدّيات الأخطر.
هكذا يجب ترتيب أوراق البيت الداخلي، بدءً من المراجع الأجلاء ومروراً بمراكز القوى السياسية وانتهاءً بالقواعد الشعبية. وفي اعتقادنا أن الجماهير المليونية الزاحفة إلى كربلاء المقدّسة تشكّل رصيداً كبيراً لصنّاع القرار المرجعي والنخبوي.. فلابد من استثمار هذا الرصيد وتوجيه الطاقات نحو أهداف إنقاذية كبرى بدل التشاغل في صراعات تُنزِف قوانا وتُحيلها إلى العطب والعطل.

* وأخيراً:

ما أعظمكم يا جماهير الأربعين المؤمنة.. بارك الله في كل خطوةٍ ترفعونها وتضعونها من أجل هذه الشعيرة التي جعلها أهل البيت (عليهم السلام) واحدةً من خَمسِ علامات تُميِّز أهل الإيمان عن غيرهم.. أحيوها عاماً بعد عام ولكن بروحٍ توّاقةٍ إلى التطوير الإيجابي، فهذه النعمة الفريدة من نوعها في العالم يجب استثمارها على نحوٍ يصبّ في أهداف الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاحية العابرة للأزمنة والأمكنة حتى الأبد. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

مع تحيات الفقير إلى رحمة ربّه الغني:
عبدالعظيم المهتدي البحراني

1/ شهر صفر/ 1436

للاعلى