لا مكان للتطرُّف..
في منهج الإمام الصادق (ع)

بيان سماحته بمناسبة (25/شوال/1435) ذكرى إستشهاد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما هدانا، والصلاة على النبيِّ محمَّد مقتدانا، وعلى أهل بيته أئمتنا، واللعنة على أعدائهم إلى يوم القيامة بشرانا.

وأما بعد فقد قال الله عزوجل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

ونتساءل في ذكرى إستشهاد مولانا الإمام الصادق وهو السادس مِنْ أئمتنا الأطهار من آل محمَّد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) عن مستوى “المعِيَّة” عندنا في رحاب الصادقين؟
هل نعيش معهم في كل جوانبهم.. أم قَطَّعْنَاهُم حسب الأمزجة والميول الشخصية والحزبية.. فبينما قد توهَّم البعض مفهوم “المعِيَّة الصادقية” بأخذه الجوانب السياسية والإنفتاح على الحياة الدنيا حتى امتلئ وقتُه بها ولم يَبق لديه وقت ينظر إلى القيم الشرعية التي تلفظ أنفاسها تحت قدميه.. ترى البعض الآخر اختصر الأئمة الصادقين في معارك مع المسلمين حتى راح يطلق سهام التكفير واللعن والتشهير والسبِّ على إخوانه الشيعة بحجة الغيرة على العقيدة والدفاع عن مظلومية أهل البيت!!

سيِّدي أيُّها الصادق مِنْ آل محمد.. ساعد الله قلبك على ذاك التطرُّف السياسي وهذا التطرُّف الذي يدَّعي ولاءك وإحياء الشعائر ونشر الفضائل والبراءة من أعدائك!!

لقد داس المتطرِّفون في كِلتا الجهتين فكرَك الشمولي الجامع وحكمتك وأخلاقك واعتدالك حينما هجروا كُلَّ ذلك.. وظلموك سيِّدي بصرف ملايين الملايين مِنَ الأموال والساعات والجهود وحتَّى الدماء في واد غير واديك!!

إلى مَنْ المشتكى سيِّدي.. مِنْ وباء التطرُّف لدى السياسيين حين استسهلوا المعاصي المكشوفة بل الظلم الفاضح، ومن بلاء التطرُّف لدى من يعتبرون أنفسهم في خندق الولاية والشعائر.. وفي الطرفين منهم أناس عقولهم فارغة، ونفوسهم متشنِّجة، وألفاظهم بذيئة، وعلاقاتهم مشبوهة، وجهودهم غير مدروسة و…

يا ليت هؤلاءِ وهؤلاء ينتجون في أفكارهم وأفعالهم مقدارًا من الوسطية والقِيَمِيَّة والرشد والحكمة والنضج والعقلانية التي نقرأها في سيرتك الفعلية والقولية يابن رسول الله.. ولا يلجوا في المساحات التي ليست من إختصاصهم ولوج المتخصصين المتفرِّغِين لها، فمثلًا أن يعمل السياسِّي بوظيفته الشرعية من غير اتِّهام غيره وقمعه والحطِّ من كرامته وتأليب الناس عليه ولاسيَّما في مواجهة المراجع ومؤسَّساتهم وجمهورهم.. وهكذا على مدَّعي الدفاع عن المذهب وخصوصيَّاته أن يعمل بوظيفته الشرعية ولا يسب ويلعن ويتحدَّث بألفاظ سوقيَّة يثير بها الطرف الآخر ثم يرفع صوته وا مظلوماه خالطا بين المظلوم الحقيقي والمظلوم المسبِّب للفتنة.. وما أكثر الأزمات بين الكبار يُسَبِّبُها الصغار ويُسَعِّرُون نارها ويحمُّونها وتستغلها الإستخبارات لضرب الجميع ببعضهم البعض!!

حقًّا أصبح التطرُّف في زماننا مضحكًا ومبكيًا في طرفيه السياسي وما يسمَّى بالولائي.. وهذا ناتج عن ضحالة العقل وغياب روح المسؤوليَّة ونسيان الموقف غدًا عند الله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

عذرًا يا صادق آل محمَّد- إن كان التطرُّف قد نال من براءة جعفريَّتك التي أردتَّها عنوانًا لزين شيعتك بين الناس.. فقد سبق أن نال من حبّ الله والتأسِّي بجدِّك رسول الله!! فالمتطرِّفون قد شانوك سيدي وشانوا إلى الله ورسوله بجزمياتهم في الرأي واستبدادهم في المواقف وكأنَّهم يملكون الحقيقة كلها والدين والمذهب أيضا وأنت يا سيِّدي مثل جدِّك المبعوث رحمةً للعالمين وصاحب الخُلُقِ العظيم واضح مُشرِق منير.. قلت وفعلت وفعلت وقلت.. فلم تخطأ ميزان الحقِّ والعدل والأخلاق والحكمة قيد أنملة.

مولاي أيها الصادق -صلوات الله عليك وعلى جدِّك محمَّد وجدَّتك فاطمة وعلى آبائك وأبنائك وحفيدك المنتظر المهدي- بحق الله عليك خذ بأيدينا في زمن الفتنة العمياء لنعرف حقيقة دينه القويم وتطبيقاته على حياتنا وما يتصل بمحيط عملنا ومقدار وسعنا وتكاليفنا الشرعية على نحو اليقظة والصدق والإخلاص.

سيدي.. إن ذكرى استشهادك الأليم فرصة لمليارد ومئة ألف مسلم في العالم والشيعة منهم خاصةً أن يستثمروها للمزيد من التزود بدروسها وبصائرها ونورها وإشراقاتها قبل فوات الفرص وحلول الموت وألم الندامة. ومن الدروس أنْ نتأمَّل في أقوالك ووصاياك قبل أنْ نفكر في مجلس عزائك أو البكاء على مصيبتك وحلقات اللطم على صدورنا ونحن عاكفون على مخالفاتنا لتعاليمك!!
وكذلك الأمر بالنسبة لكل سياسي الهوى حيث يختبأ وراء هذه المناسبات ليركب المزيد من الظهور وعينه على مآربه الدُنيوية…

نعم.. ولِكيلا نقع في مستنقع التطرُّف الأول والثاني وبكُلِّ أشكاله يجب علينا أخذ الدروس من المناسبات.. فالخطباء المنبريون يختاروا مواضيعهم الوسطية الهادفة، والحاضرون يتفكروا فيما يسمعونه.

فمثلا ما أروع ما جاء في وصيَّةِ الإمام الصادق لابنه الإمام الكاظم (عليهما السلام) وهي في الواقع وصيَّة لنا جميعا:

“يا بني إقبل وصيَّتي، واحفظ مقالتي، فإنَّك إنْ حفِظتها تعش سعيدًا وتمت حميدًا، يا بني من قَنَعَ بما قُسِم له استغنى، ومن مدَّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومن لم يرض بما قسم الله له اتَّهم الله في قضائه، ومن استصغر زلَّة غيره استعظم زلَّة نفسه، ومن استصغر زلةَّ نفسه استعظم زلَّة غيره. يا بني من كشف عن حجاب غيره تكشَّفت عوراتُ بيته، ومن سلَّ سيف البغي قُتِل به، ومن احتفر لأخيه بئرًا سقط فيها، ومن داخل السفهاء حُقِّر، ومن خالط العلماء وُقِّر، ومن دخل مداخل السوء اتُّهم. يا بني إيَّاك أن تزري بالرجال فيُزرى بك، وإيَّاك والدخول فيما لا يعنيك فتذل. يا بني قل الحقَّ لك وعليك تُستشار من بين أقرانك. يا بني كن لكتاب الله تاليًا وللإسلام فاشيًا، وبالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، ولمن قطعك واصلًا، ولمن سكت مبتدئًا، ولمن سألك معطيًا، وإيَّاك والنميمة فإنَّها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، وإيَّاك والتعرُّض لعيوب النَّاس، فمنزلة المعترض لعيوب النَّاس كمنزلة الهدف…”.

عجبا من المتطرفين.. أين هم من هذه التعاليم الصادقية.. ومما قاله (عليه السلام) لرجل: “أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإنْ يك رشدًا فأمضه، وإنْ يك غيًّا فانته عنه”.

وأين هم من قول إمامهم هذا: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه”.

وهل سألنا أنفسنا عن درجة التزامنا بأمره هذا: “اِجعَلُوا أمرَكُم هذا للهِ ولا تجعلوهُ للنَّاس ، فإنَّه ما كان لله فَهُوَ لله، وَما كان للنَّاس فَلا يَصعدُ إِلَى السَّمَاء، ولا تخاصمُوا بِدِينِكُم، فإنَّ المُخَاصَمَة مُمرِضَةٌ للقلب، إِنَّ الله عزَّوجلَّ قال لنبيِّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّكَ لا تَهدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقال: (أَفَأَنْتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)”.

فيا أيُّها الشيعيُّ أفِق.. وقل لإمامك وهو زعيم نجاتك كم طبَّقت من أمره لمَّا قال: “تَزَاوَرُوا، فإنَّ في زيارَتِكُم إِحياءً لِقُلوبِكُم، وَذِكراً لأحَادِيثِنَا، وأحاديثُنا تعطفُ بعضَكم عَلى بعضٍ، فإن أَخذتُم بِها رُشِدتُم وَنَجَوتُم، وإِن تَرَكتُمُوهَا ظَلَلتُم وهَلَكتُم، فَخُذُوا بِها وأنَا بِنَجَاتِكُم زَعِيم”.

ويا أيُّها الجعفريُّ أجب.. كم قد حقَّقت في حياتك ما قاله إمامك الصادق: “وإنَّ خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال.. إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا ظُلِم غفر”.

ولا أدري في ظل هذه الرؤى الصادقية.. كيف أصبحت ثقافةُ البذاءة الفضائية جزءا من ديننا ومذهبنا حتى راح يتبجَّح بها صاحب عمامة هناك وصاحبها الآخر هنا يقدِّسه ويبرِّر له.. في الوقت الذي تخالفه ضرورات الفطرة الإنسانية وبديهيات الأخلاق الإسلامية.. أليس الإمام الصادق -بأبي هو وأمي- قال في رسالته إلى جماعة الشيعة-كما في كتاب الكافي الشريف ج٨ ص٧-: {وإيِّاكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم، فيسبُّوا الله عدوًا بغير علم. وقد ينبغي لكم أن تعلموا حدَّ سبهم لله كيف هو؟ إنَّه من سبَّ أولياء الله فقد انتهك سبَّ الله، ومن أظلم عند الله ممن استسبَّ لله ولأولياء الله، فمهلًا مهلًا، فاتَّبِعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله}.

يقول الراوي -كما في المصدر- لقد كتب الإمام هذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.

وهل قرأ المتطرفون ما ورد -في الكافي أيضا/ج2ص43- عن خادم أبي عبد الله -الصادق- (ع)، حيث قال:
بعثني أبو عبد الله (ع) في حاجةٍ وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه، فانطلقنا فيها ثمّ رجعنا مغتمين، وكان فراشي في الحائر الّذي كنّا فيه نزولاً، فجئت وأنا بحالٍ فرميت بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبدالله قد أقبل، فقال:
قد أتيناك -أو قال: جئناك- فاستويت جالساً وجلس على صدر فراشي، فسألني عمّا بعثني له، فأخبرته، فحمد الله ثمّ جرى ذكر قومٍ، فقلت: جُعلت فداك!.. إنّا نبرأ منهم، إنّهم لا يقولون ما نقول. فقال (ع): يتولّونا ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟! قلت: نعم. قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟! قلت: لا، جُعلت فداك!.. قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا؟.. أفتراه أطرحنا؟.. قلت: لا والله، جُعلت فداك!.. ما نفعل؟ قال: فتولّوهم ولا تبرؤا منهم.. إنّ من المسلمين مَن له سهمٌ، ومنهم مَن له سهمان ومنهم مَن له ثلاثة أسهم، ومنهم مَن له أربعة أسهم، ومنهم مَن له خمسة أسهم، ومنهم مَن له ستّة أسهم، ومنهم مَن له سبعة أسهم. فلا ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب السّتة، ولا صاحب الستّة على ما عليه صاحب السبّعة”.

سيِّدي ويا مولاي.. يا رمز التشيع الجعفري الوهَّاج.. لا أدري إن كان سيهتدي بعض المتحمِّسين للدِّفاع عنك.. أم يتجاهلون رسالتك كما تجاهلها الطرف الآخر ممن جرفتهم السياسة وثروات الدنيا ولذاتها وحب الأنا؟!

سيِّدي.. يعتصر قلبي على حال هذا “البعض” المتطرِّف كما ينشرح صدري للبعض الأكثر من شيعتك وهو لازال جعفريًّا بفكره وأخلاقه في العقيدة والولاء وفي السياسة وساحات الإباء..
بهؤلاء يا سيِّدي فإنَّ التشيُّع يكون بخير حتى يعم عدله وإنسانيته أرجاء العالم بظهور حفيدك الإمام المهدي المتتظر (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).

أللهم وفقنا للعلم وسدِّدنا في العمل وأحسن عواقب أمورنا بجاه النبي محمد وآله خير الورى.

داعيكم:
عبدالعظيم المهتدي البحراني

23/شوال/1435
2014/8/20

للاعلى