تزكية النفس..
تأسيس للحياة الطيبة…

تلخيصا لخطبة عيد الفطر السعيد التي ألقاها سماحته في مسجد الرسول الأعظم (ص) بمحافظة المحرق (1435).

بسم الله الرحمن الرحيم

1. الطالب الذي يُراجع دروسه بشدَّة ويقدِّم الإمتحان.. ما أشد فرحه يوم يستلم شهادة نجاحه بتفوق عالي. وكذا العامل والموظف يعمل شهًرا كاملًا.. ما أشد فرحه لما يدخل راتبه في حسابه المصرفي. وكذلك اليوم.. يوم العيد، إننا بعد شهر من ممارسة الصيام نستلم جائزة العودة إلى فطرتنا النقية وصفائنا النفسي بما اكتسبناه من التقوى وهو الغاية من تشريع الصيام. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

2. إنَّ مجتمعاتنا غائصة في الفساد والأزمات والإكتئاب والخوف والجريمة.. سببها النفوس التي لم تتغير وفق أحكام الحلال والحرام. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

3. إنَّ استحباب قراءة سورة الأعلى في الركعة الأولى لصلاة العيد، وسورة الشمس في الركعة الثانية، يراد منه أشياءَ كثيرة ومنها أنَّ السورتين تؤكِّدان على محورية الفلاح لمن يغيِّر نفسه بتزكيتها وتنظيفها. ففي سورة الأعلى نقرأ الآية (14): (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ). وفي سورة الشمس نقرأ الآية (9): (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).

4. فالعيديَّة التي يجب أنْ نأخذها اليوم هي التزكية التي لها عوامل وأجواء.. منها:

* القراءة وطلب المعرفة.
* الحضور إلى مجالس العلماء الصالحين.
* المجيء إلى صلاة الجماعة في المسجد.
* التفكر في هدفية الوجود.

والأهمُّ مِنْ كُلِّ ذلك.. أنْ نتوجَّه إلى عبادة الله وطاعته مِنْ باب النبي محمد وآله ولا باب سوى بابهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

5. لقد استوقفني عدد (واو) القَسَم في سورة الشمس وأنا في طريقي اليوم إلى المسجد.. لماذا إحدى عشر مرة يقسم الله؟!
أولًا اعرِفوا المُقْسِم هو الله نفسه.. وثانيًا اعرِفوا أنَّ المُقْسَم به هو أعظم مخلوقاته التي تدور حولها إدارة الكون والحياة.

ومن هذا وذاك تصل الآيات إلى جواب القسم.. أي الموضوع الذي أقسم الله لأجله.. مما يدلُّ على أهميته القصوى.

دقِّقوا معي في الآيات وواواتِها الإحدى عشر بين القوسين:

(و) َالشَّمْسِ (وَ) ضُحَاهَا * (و) َالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * (وَ) النَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * (وَ) اللَّيْل إِذَا يَغْشَاهَا * (و) َالسَّمَاءِ (وَ) مَا بَنَاهَا * (و) َالْأَرْضِ (وَ) مَا طَحَاهَا * (و) َنَفْسٍ (و) َمَا سَوَّاهَا.

وهنا تأتي الآية (8) من السورة (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) لتبين أهمية وعي الإنسان للشر وللخير فِطريًّا، ثُمَّ مِنْ منطلق هذا الوعي عليه أنْ يختار واحدًا مِنْ الأمرين:

ألف/ الفلاح بتزكية النفس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).

باء/ خيبة أمل لمن يَدُسُّ نفسه في الحرام إكراهًا لها، لأنَّ المعصية خلاف الفطرة (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

6. إنَّ للقرآن تفسيرًا وتأويلًا، فما سبق هو تفسير لهذه الآيات، ولكن باعتبار أنَّ للقرآن سبعة بطون -كما في الحديث- فرُبَّما أمكننا الذهاب إلى المعنى التأويلي لبطن من بطونها والله العالم..

تأملوا معي.. هناك أحد عشر حرف (واو) القسم في الآيات الأولى.. خذوها إشارة رمزية لأحد عشر إمام من أئمة أهل بيت النبي الأكرم (ص) وكان ما منهم (إلا مقتول أو مسموم) إلا أنَّ الإمامَ الثاني عشر هنا -حيث لم يُقتل- ترمز إليه الآية الجوابية للقسم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)..

فلنكن ممن (زَكَّاهَا) في خدمة القضية المهدوية بمفهومها الجامع وهو العمل الصالح على خطِّ التمهيد للدولة الكريمة. وعلى العكس أولئك الذين ليسوا مع هذا التوجه العظيم (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).

7. أقول: ولعل ما يؤيِّد هذا المعنى الرمزي هو تَتِّمة السورة حيث الآيات تتحدث عن قصة النبي صالح وكيف أنَّ قومه ذبحوا الناقة المنذورة عِنادًا لنبيِّهم وتحِّديًا لأمر الله.. مع علمهم بالنهي عن ذلك. (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) وهنا أنزل الله عليهم عذابه (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).. تمامًا مثل قوم حبيبنا النبي محمد (ص) الذين اجتمعوا على ظلم أهل بيته، فضربوا ابنته الزهراء فاطمة (س) وغصبوا حقَّ بعلها علي (ع) وقاتلوا السبط الحسن (ع).. ثم راحوا ليرتكبوا أبشع مجزرة في كربلاء بحق السبط الآخر الإمام الحسين (ع) وأولاده وأصحابه.
وترى لمَّا طلب هذا الإمام الرافضي أبو الأحرار من جيش يزيد بن معاوية قليلًا مِنْ الماء لطفله الرضيع علي الأصغر الذي كان يتلوَّى عطشًا بين يدي أبيه ابن بنت رسول الله وذلك بعد قطع الماء عن خيامه.. هنا كان جواب (المسلمين!! التكفيريين!!) سهما ذا ثلاث شُعَبٍ مزَّقوا به رقبة الطفل من الوريد إلى الوريد.. فدعا عليهم الإمام الحسين (ع) قائلا:
“أللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح”
عِلمًا أنَّ قوم صالح قتلوا الناقة فهرب فصيلها مرعوبًا من الجريمة فآوى إلى صخرة.. فهم لم يقتلوا الفصيل إذن، ولكن الجيش الأموي قتلوا الحسين وقتلوا فصيله الطفل الرضيع أيضا وهو على يديه يطلب منهم أنْ يأخُذُوه فيسقوه ماءًا ويعيدوه إلى أمه.. فبشاعة الجريمة هنا أكبر!!

من هنا نزل غضب الله على هذه الأمة التي لم تأخذ دروسها من القرآن الكريم حول أقوام الأنبياء السابقين.. فابتدأت الانتكاسات وعصفت بالمسلمين ألوان العذاب من ظلم الحُكَّام وأتباعهم وفسقهم ومجونهم وجرائمهم وخياناتهم.. ومن جهل المسلمين وتخلُّفهم وغلبة سفهائهم.. وتلك مسيرة الحروب والفتك والهتك والمهازل والمعاول قد امتدَّت ووصلت اليوم إلى ما تشاهدونه من داعش وفاحش و…

8. العيد عندنا هو يوم يعود المسلم إلى دين السلم والسلام.. دين المحبة والوئام.. دين الفطرة والصدق والحكمة وجميل الكلام. هذا العيد بهذا المعنى هو ما يريده الله مِنَّا ورسولُه وأهلُ بيته أئمة المسلمين وخلفاء نبيهم الأمين.. علي (الشمس) والحسن (ضحاها) والحسين (القمر) وزين العابدين (النهار) والباقر (الليل) والصادق (السماء) والكاظم (بناها) والرضا (الأرض) والجواد (طحاها) والهادي (نفس) والعسكري (سواها) والقائم المنتظر المهدي (عليهم وعلى جدهم وابنته الزهراء آلاف الصلاة والتحية والسلام).

بهذه العقيدة الصحيحة والأخلاقيات الجميلة والتزام وصيتهم الخالدة: (كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا) ننطلق في تغيير أنفسنا بالجهاد الأكبر تمهيدًا لتغيير ما بقومنا إلى يوم ظهور منقذ البشرية قائد الرحمة الإسلامية.

هكذا سنؤسِّسُ للحياة الطيبة لنا ولغيرنا فنكون قد تميَّزنا عن الذين ظلموا محمَّدًا وآل محمد.. وعن الذين جهلوا مقامهم الحقيقي وراحوا يمارسون الحماقة والبذاءة باسم الدعوة إليهم.. وأهل البيت في غنى عن دفاعٍ مقلوب القيم والمبادئ!!

” أللهم إنَّا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذِلُّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها مِنْ الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة”.

للاعلى