سيدي.. إلى روحك أشتكي!!

( بيان سماحته بمناسبة الذكرى الثالثة عشر لرحيل المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله، والصلاة على رسوله حبيب الله، وأهل بيته الهداة إلى دين الله، واللعنة على أعدائهم إلى يوم لقاء الله. وأما بعد:

فقد قال الله تعالى:

(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

هذه هي الآية التي لا تعترف بعالم لا يخشى الله في قول ولا فعل.. وهو العالم المتهتك بنفسه والهتاك على غيره.. والنموذجان المنحرفان موجودان بكثرة في مواجهة النموذج القرآني القليل في كل زمان والمنتصر بالله المستعان.

تبتدأ الآية بأداة الحصر (إنما) وتريد التخصيص بالعلماء الذين يجب اتخاذهم أعلام الطريق إلى الله، وتعني أن ليس كل عالم ومهما كان كبيرا في علمه يكون طريقا إليه عزوجل!!

هذه بصيرة من القرآن الكريم.. ولو أن المسلمين وأتباع مذهب أهل البيت خاصة كانوا يتمسكون بها لكانت قيادة العلماء الربانيين تنقلهم إلى حال أحسن من حالهم المتأزم وواقعهم المتهالك!!

نعم.. العلماء الذين يخشون الله حيث بلغوا عمق الحقيقة للدين وفقهوا مناهجه ومقاصده في الحياة.. هم المطلوب من الناس أن يلتزموا بهم بعد البحث عنهم والتأكد من أنهم أخذوا علومهم من منابعها الصحيحة (القرآن والعترة فقط). ولم يعذر الإنسان في اتباع أي عالم، كان من كان.. بل يجب التحقيق حوله، فالعالم الرباني ليس بكثرة علمه ولا بالتلميع الإعلامي وإنما بآثار النور في سيرته وعلامات التقوى في مسيرته..

بهذه البصيرة المستفادة من الآية ومن الرواية النبوية القائلة “ليس العلم بكثرة التعلم، وإنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يحب…”، يجب القيام بالبحث عن مصاديق العالم النوراني ذي الخشية من الله..

وهل لذلك من علامة؟
هكذا سأل الأصحاب، فأجابهم النبي (ص) أنها ثلاثة:

1. التجافي عن دار الغرور.
2. الرغبة في دار الخلود.
3. الإستعداد للموت قبل نزوله.

في ظل هذا المعيار الأصيل قرآنيا وعترويا تتم الحجة علينا في وجوب معرفة العلماء الصالحين وتلك علاماتهم واضحة..

فبالنسبة لي شخصيا.. منذ عام (1975) تعرفت على المرجع الشيرازي الفقيد ذلك المجتهد الموسوعي المتميز ونمت معرفتي به إلى شهر قبل وفاته ثم تنامت بالمزيد في تتبع آثاره.. فهي معرفة ممتدة على طول (39) عاما بأدوات القراءة في كتبه والمحاورة المباشرة معه في أمور كثيرة وبالمقارنة بين منطق محبيه ومخالفيه حيث لا يخلو منهم حتى ضد الأنبياء والأوصياء ممن لا يفهمونهم أو لا يريدون أن يفهموا…

من هنا لم تكن عقيدتي بهذا المرجع الكبير عن سطحية أو عاطفة أو لأجل مصلحة، كيف وقد كان ضرر تأييدي له بالمقياس الدنيوي أكبر من نفعه.. أقول هذا للتأكيد على حيادية تقييمي لشخصية هذا المرجع النموذجي ومشروعه العقائدي الولائي الأخلاقي النهضوي الفريد من نوعه الشمولي عند النظر إلى مشاريع المراجع الآخرين الكرام (زاد الله في توفيقاتهم).

فهو حقا كان واحد من أبرز مصاديق تلك الآية وهذه الرواية وغيرهما مما جاء في وصف العلماء الذين عاشوا خشية الله واتقوه حق تقاته حتى قذف الله في قلوبهم نورا منه عزوجل.. ثم لم يبالوا إن كان قد جهله البعض أو عاداه أو عانده أو حسده!!

إنه الشيرازي.. وكالشمس لن تغيب إشراقاته حتى لو خطفته يد المنون -في الثاني من شهر شوال 1422 – 2002- ولهذه الشمس المشرقة سمات أختصرها فيما يلي:

* القرآن وأحاديث العترة..

لقد تعامل الإمام الشيرازي معهما بالتدبر والدراية، فمسك بعصب العلاقة الجوهرية المتداخلة بينهما وهو يضخ من أنوارهما في روافد الحياة ومشروع الإنقاذ للأمة وليس إنقاذ فئة، فلم تسمع له محاضرة أو تقرأ له تأليفا أو تحضر له درسا أو تذهب إلى جلساته المفتوحة إلا والآية دليله أو الحديث برهانه.. يربط بين مفاهيمهما بعقله الذي ألزمه بضوابط الخشية الإلهية.

* التدين والتعبد والتهجد..

بذلك عرفه الحائر الحسيني في كربلاء المقدسة وكل المشاهد المشرفة ومسجد الكوفة والسهلة، وخلوات السجدة الطويلة ودموع المناجاة الغزيرة وسرداب الإمام الحجة (أرواحنا فداه).

* الحماسة الشعائرية..

هي السمة البارزة في شخصية المرجع الشيرازي، وهو في غنى عن التعريف على هذا الصعيد، فالحسين (عليه السلام) كان عنوانه الأول والأخير، وكان بكاءا على مصائب جده الشهيد.

أذكر ذات مرة وأنا لاصق ببدنه الشريف في مجلسي وإذا اهتز بدني من شدة بكائه والخطيب ينعى واقعة عاشوراء.

* الثقافة العصرية..

وقد طالع فيها وتابع مواضيعها وكتب عنها من موقع الوعي لا التبعية الإنهزامية.

* المعرفة السياسية..

إذ تابع فصولها كمحلل ثاقب النظرة في ماورائياتها من خير أو من شر. فلم تكن القضايا السياسية غائبة عن رسالته ورساليته.

* الحكمة العملية..

حيث وضع كل شيء في موضعه المناسب له حسب ما أوتي من وسع وجهد كبشر غير معصوم.

* الهمة العالية..

لم يتطلع إلى مشاريع محدودة المدى، فتحرير الإنسان في كل الأرض، والدعوة إلى حكومة المليارد مسلم جزء من ذلك التطلع العالمي لمنظومته الفكرية الواسعة التي كتب لها موسوعته الفقهية ذات المائة والستين مجلد.

* الأخلاق الحسنة..

ما كان ينافسه فيها أحد، فقد كان حب الخير للآخرين والرزانة والعفو والتسامح وسعة الصدر وأدب الكلام والتواضع من أهم سجاياه التي عرف بها حتى اعترف لها خصومه كما حكاه لي كثيرون منهم ممن ناقشتهم في لقاءاتي المتعددة حين تأليفي لكتاب (قصص وخواطر) قبل عشرين عاما.. حيث كنت أبين لهم الحقيقة المغلوطة لديهم عن هذا المظلوم وكثير منهم غيروا موقفهم منه.

وأما كلمة الخاتمة..
شكواي إلى روحك سيدي:

أيها الشيرازي العظيم.. هذا أنت، بل هذا بعض ما كنت عليه من عظمة.. ولكن سيدي عذرا وأنا أزعجك الآن في عليائك!!

سيدي.. وكما الأديان لم تسلم من آفة الطفيليات التي نبتت في جوانبها.. وكذلك مذهبنا الحق لم يسلم.. وكذلك المرجعيات الدينية الأخرى.. كذلك لم تسلم جماعتك منها!!

ها قد ابتلينا من بعدك بطفيليات يقودها معمم بذيء اللسان، جريء التجاسر، سطحي الفكر، عنيف المواقف، يرفعون صورك وإسمك في خلق الضديات مع القريب والبعيد!!

تذكرنا تصرفاتهم بالخوارج الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين يرهبونهم بالتشهير إن خالفوهم في الرأي والتحليل!!

سيدي.. فإن كان الخوارج يختبأون وراء الصلاة وتلاوة القرآن آناء الليل فهؤلاء (البذور) يختبأون خلف الشعائر الحسينية وشعار الولاية والبراءة بتركيب الزيف على الزيف لخداع الطيبين من محبي أهل البيت (عليهم السلام)!!

سيدي.. يذكرنا هؤلاء الغشمة بمحاكم تفتيش العقائد في القرون الوسطى!!

يحتكرونك لأنفسهم في عملية قرصنة خطيرة لا مثيل لها في تاريخ المرجعيات الشيعية!!

سيدي.. لقد اختصروك في السب واللعن والتنابز بالألقاب والألفاظ السوقية ممزوجة بغطاء اللطميات الحسينية والتطبير بشكله المتطرف المقرف!!

سيدي.. ولو كنت اليوم بيننا وقويت شوكتهم لانتقدوك على بعض أفكارك الوحدوية (كشورى المراجع) لأنهم لا يؤمنون بأكثرهم ويهينون بعضهم الآخر. و (كوحدة الأمة) لأنهم يكفرون أبناء السنة قاطبة ويثيرونهم في فضائيتهم المشبوهة حتى قدموا للتكفيريين كل المبررات لتجييش البسطاء من السنة لذبح الشيعة!!

سيدي.. ولو كنت حيا لقالوا عن بعض لقاءاتك وصورك التاريخية أنك مهادن للبترية والبكرية!!

سيدي.. إنهم البلاء الذي كنت تحذرنا منه بجوابك على سؤالي هذا:
لماذا يعاديك بعض الشيعة وعلماؤهم؟!

فقلت لي:

صفعتان من أسرة الشيرازي أصابتا وجه الإستعمار البريطاني.. الأولى في ثورة التنباك في إيران بفتوى المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي، والثانية في ثورة العشرين في العراق بقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي.. فالإنجليز لا يريدون أن تأتيهم الصفعة الثالثة. لذا يشوهون سمعتنا بين الناس لئلا يلتفوا حولنا، ولهم في الناس والحوزات عملاء سريون يوجهون نحو الفتنة والتفتيت.. فاقرأوا مذكرات الجواسيس لتعرفوا كيف يعمل العدو بدقة شيطانية عالية!!

آه يا سيدي.. وكأنهم فعلوها بنا والقوم لا يشعر إلا من أعطاه الله بعضا من ذكائك.. وإني لأرجو أن أكون مخطئا في تحليلي!!

سيدي.. ولا أزيدك الشجون.. أنت في القرب من ربك سبحانه أطلب منه تعالى لشقيقك المرجع الرباني سماحة السيد صادق (دام ظله العالي) أن يؤيده الله ورجاله الساهرين في قيادة المرحلة وصون الأمانة.. بجاه النبي محمد وعترته الطاهرة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) آمين يا رب العالمين.

الفقير إلى ربه الغني:
عبدالعظيم المهتدي البحراني

2/شهر شوال/1435
2014/7/30

للاعلى