* ليلة القدر..
ليلة السلام حتى مطلع الفجر

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِِ)

الحمدلله الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير وهو أرحم الراحمين. والصلاة والسلام على النبي محمد الأمين وآله الطيبين الطاهرين. واللعنة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

وأما بعد:

فقد قال الله تعالى.. (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هو القرآن.. كتاب مبارك أنزله على رسول مبارك وفي ليلة مباركة. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هي ليلة عظيمة جدا ولا تقاس بالمقاييس البشرية.. فلابد لك أن تدري قدرها وقيمتها ولو بعض الشيء. (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) و1000 شهر يعادل 83 سنة تقريبا معدل عمر الإنسان الطبيعي، وتعني أن أعمالك الصالحة في هذه السنوات كلها لو وضعتها في كفة ووضعت إحياءك لأعمال ليلة القدر بشرطها وشروطها (والولاية من شروطها) في كفة.. ستكون هذه الليلة خير من ذلك العمر كله.

إن أهم سبب في هذه الأفضلية أنها ليلة (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) تتنزل “فعل مضارع” يفيد معنى الإستمرار.. إستمرار نزول وفد الملائكة وقائدهم الروح بإذن من الله الرب المربي. أين يذهب هذا الوفد العظيم وعند من في الأرض سيتفاوض حول هذه المهمة السنوية العظيمة؟

كان في زمن الأنبياء السابقين يوفد عليهم، وفي زمن خاتم النبيين محمد كان ينزل هذا الوفد الملائكي بقيادة الروح ضيفا عليه (صلى الله عليه وآله)، ومن بعده لم تتوقف ليالي القدر ولن تتوقف إلى يوم القيامة، إذن ليس هناك سوى أوصياؤه الأئمة الإثنى عشر وهم خير البشر يدخل عليهم هذا الوفد. فهذه السورة إذن من أقوى براهين (الإمامة) ووجود الإمام المهدي “أرواحنا لتراب مقدمه الفداء” في هذا العصر والزمان.

إنها ليلة القدر.. ليلة هي (سَلَامٌ) من الله على عبده محمد وعلى أهل بيت محمد.. ومنه عزوجل ومن ملائكته وروحه ومن محمد وآله سلام علينا إن كنا من عباده الصالحين.. (هِيَ) ليلة السلام بكل معنى السلام، ومدتها (حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

فما رأيك -يا أخي المسلم.. أختي المسلمة- أن نستثمر هذه الليلة للسلام عليهم أيضا ولكي نتعلم فيها ثقافة السلام بالإستجابة لنداء الله الملك الحق المبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إستجابة عبد مطيع مخلص قد تخلى عن أنانيته من أجل ربه الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير. أفهل لنا رب غير هذا الرب الهادي المحب الرزاق وهو أرحم الراحمين؟!

أيها المسلمون..
أيتها المسلمات..

نعيش هذه الأيام والليالي العشرة الأخيرة من شهر الضيافة الإلهية شهر رمضان.. فإن فاتتنا منه فرصة من فرصها الذهبية فلا نسمح لفوات ما بقي منها ونحن نقترب لعيد الفطر واستلام جوائز التقوى إن شاء الله…

فما هي واجباتنا ونحن محاطون بالأحداث المؤلمة من فساد الشهوات وتفشي الجاهليات وجور السياسات وسفك الدماء بأبشع صنوف الوحشية المنفلتة في جو من الخلافات المتصلة بالأهواء؟!

إننا وجدنا الجواب في هذه الآية الكريمة، وقرار الأخذ به نتركه بأيد الذين يفطنون المغزى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

فخارطة التغيير.. تبدأ من الفرد نفسه أولا.. فلا ننظر لغيرنا والقبر والحساب والجنة والنار يدور رحاها حول الفرد دون غيره: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

هكذا فمن تغيير الفرد لنفسه في السليم سينتشر التغيير بالسنخية السليمة في الأمور العائلية والقضايا المجتمعية وإدارة المال والسوق والحكم والقوانين…

فلننتهز ساعات ليلة القدر لهذا التغيير ولا يتعبنا البحث عنها بين عدة ليال (19، 21، 23) وحتى (27) ما دامت القصوى في هذه الأهمية المصيرية.

إنها ليلة القدر.. وطبيعة الليل في الكون طبيعة خصبة للعروج الروحي في التقرب إلى الله وتنعكس آثارها على حركة الإنسان في النهار وإنتاجه الأحسن.. ولذا ترى الآيات تؤكد:

1. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا).

2. (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

3. (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

فلا نغفل قيمة هذه الليلة وآثارها على نفوسنا وثقافتنا وسلوكنا وأرزاقنا وسعادتنا وعواقب أمورنا.. وخاصة عتق رقابنا من النار ودخولنا الجنة مع الأبرار.

فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: “قال موسى: إلهي أريد قربك. قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر. قال: إلهي أريد رحمتك. قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر. قال: إلهي أريد الجواز على الصراط. قال: ذلك لمن تصدق بصدقة ليلة القدر. قال: إلهي أريد من أشجار الجنة وثمارها. قال: ذلك لمن سبح تسبيحة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد النجاة من النار. قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر. قال: إلهي أريد رضاك. قال: رضائي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر”.

وأخيرا.. حيث أنك أيها المسلم الشيعي أولى من غيرك في التغيير، فلا تتهاون في قراءتك الحديث التالي وإن كنا ندعو إليه إخوتنا في المذاهب الأخرى كيلا يخسروا نصيبهم من أهل بيت نبيهم محمد (صلى الله عليه وآله).

لقد روى الثقة جابر الجعفي عن أبي جعفر -الإمام الباقر- (عليه السلام) قال: قال لي:

“يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.
قال جابر: فقلت يابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة.
فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا، فلو قال إني أحب رسول الله فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير من علي (عليه السلام) ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عزوجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع”.

وفي الختام:

نرفع أكفنا بالدعاء لتعجيل ظهور مولانا القائم من آل محمد (صاحب الدولة العالمية العادلة).. وأن يحفظ الله مراجعنا الأجلاء وعلماءنا الربانيين (قادة الممهدين لعصر النجاة).. وأن يصون جميع المسلمين وبالأخص الملتزمين بمذهب أهل البيت في العراق وسوريا لبنان وفلسطين (خاصة مظلومي غزة) واليمن والخليج (والبحرين خاصة) وأفغانستان وباكستان وإيران والعالم كله.
أللهم انقذ المسلمين من تصنيم حكامهم وشخصياتهم وأحزابهم وانتماءاتهم التي ما أنزلت بها من سلطان.. أللهم وجردهم من أصنامهم الباطنية يا رب لتكون أنت الواحد الأحد الفرد الصمد معبودهم المطاع إلى الأبد.
أللهم وفقنا إلى حقيقة العبودية فنخلص فيك نوايانا ونحن نقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).

الملتمس لصالح دعواتكم
داعيكم الفقير إلى رحمة ربه الغني:
(الميرزا) عبدالعظيم المهتدي البحراني

19/شهر رمضان/1435
2014/7/17

للاعلى