تلخيصا لكلمة سماحته التي ألقاها ليلة ميلاد الإمام زين العابدين (عليه السلام).. وذلك في مأتم الحاج عباس ببلدة عراد -محافظة المحرق-في (5/ شهر شعبان/1435).

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه ليلة ميلاد زين العباد الإمام علي بن الحسين السجاد.. الرابع من أئمتنا الأطهار..
هي ليلة مباركة مثل كل ليالي المواليد التي تجتمعون فيها لإحياء أمرهم وهو أمر جدهم رسول الله محمد سيد المرسلين.

في حياة هذا الإمام العظيم توجد إضاءات كثيرة.. وسأقتبس منها مجموعة تمهد لي الوصول إلى رسالة المناسبة.

* الإضاءة 1
ماذا أقول في إمام أبوه الإمام الحسين وعمه الإمام الحسن وجده الإمام علي وجدته فاطمة الزهراء وجده الأكبر رسول الله.. وأمه بنت ملك إيران يزدجرد.. حتى كان يقال له إبن الخيرتين إشارة إلى ما ورد عن جده النبي الأكرم (ص): “إن لله من عباده خيرتين.. فخيرة من العرب قريش ومن العجم فارس”.
نعم.. إنه المولود المتميز حيث جمع بين قريش وفارس. وقد جمع حفيده الإمام المهدي بين قريش وأوروبا بأمه نرجس إبنة ملك الروم!!
ما أروع هذه الخريطة العالمية التي رسمها محمد وآله لقيادة البشرية إلى أسرة العدالة الواحدة!!

* الإضاءة 2
ماذا أقول في إمام مر على المجذومين ورآهم يتغدون فدعوه إلى الغداء معهم. فدعاهم إلى منزله وأمر لهم بطعام لذيذ، فتغدوا عنده وتغدى معهم.
نعم.. هذا وترى الناس ينبذون المرضى ولاسيما هؤلاء!!

* الإضاءة 3
ماذا أقول في إمام دعا ذات مرة عبده مرتين فلم يجبه، فلما أجابه في الثالثة.. سأله: يا بني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى. قال: فما لك لم تجبني؟ قال: أمنتك. قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني.
نعم.. أن تشعر الذي يعمل تحت إمرتك بالأمن فيعني امتلاكك حسا إنسانيا عاليا.

* الإضاءة 4
ماذا أقول في إمام كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وقيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبدا.
نعم.. إنه عبادة عارف قد عرف ربه بميزان الثقلين ولم يمزجهما بعرفان مصطنع.

* الإضاءة 5
ماذا أقول في إمام كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي بابا بابا فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيرا لئلا يعرفه. فلما توفي فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل. مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.
نعم.. كيف نحن وهؤلاء الضعفاء في حياتنا؟!

* الإضاءة 6
ماذا أقول في إمام كان يأبى أن يواكل أمه، فقيل له يابن رسول الله أنت أبر الناس وأوصلهم للرحم فكيف لا تواكل أمك؟ فقال: إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه.
نعم.. كم نحن هكذا تجاه أمهاتنا الطيبات؟!

* الإضاءة 7
ماذا أقول في إمام قال له رجل: يابن رسول الله إني لأحبك في الله حبا شديدا.
فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض.
نعم.. هذا هو المقياس.. لا قيمة لحب المخلوق لك وأنت تعلم بغض الخالق لمعصيتك له؟!

* الإضاءة 8
ماذا أقول في إمام قد حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط، فلما نفقت -أي ماتت- أمر بدفنها لئلا يأكلها السباع.
نعم.. وهذا يعني الرفق بالحيوان في زمن يذبح المسلم باسم الإسلام!!

* الإضاءة 9
ماذا أقول في إمام سئلت عنه مولاة له؟ فقالت: أطنب وأختصر؟ فقيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهارا قط، وما فرشت له فراشا بليل قط.
نعم.. كان صائما بالنهار وقائما بالليل.. إنه واحد من أئمتنا الأبرار.

* الإضاءة 10/ ماذا أقول في إمام انتهى ذات يوم إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم، فقال لهم: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم.
نعم.. فلا للعنف على من يسيء لك. هذه رسالتك التربوية من إمامك.. فاحفظها.

* الإضاءة 11
ماذا أقول في إمام كان إذا جاءه طالب علم قال له: مرحبا بوصية رسول الله. -يعني بمن أوصى النبي باحترامهم- ثم يقول: إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجليه على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبحت له إلى الأرضين السابعة.
نعم.. هذا للطالب الذي احترم نفسه بالورع من معصية الله والأدب بين عباد الله.

* الإضاءة 12
ماذا أقول في إمام كان قد بكى على أبيه الحسين عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى. حتى قال له مولى له: يابن رسول الله أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنى عشر إبنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيا في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني!!
نعم.. ويعني هذا أن الرافضة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في رفض المجرمين بأية وسيلة استطاعوا إليها سبيلا.

* الإضاءة 13
ماذا أقول في إمام يقول فيه سفيان بن عيينة قلت للزهري (وهو عالم البلاط الأموي): لقيت علي ابن الحسين؟ قال: نعم لقيته، وما لقيت أحدا أفضل منه، والله ما علمت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية!! فقيل له: وكيف ذلك ؟ قال: لأني لم أر أحدا وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحدا وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.
نعم.. هكذا كان تقييم الخصوم لشخصية إمامكم فاعرفوا قيمة ولائكم له. والفضل ما شهد به الأعداء.

* الإضاءة 14
ماذا أقول في إمام حكى سفيان بن عيينة أن الزهري رأى علي بن الحسين في ليلة باردة ممطرة، وعلى ظهره حاجة وهو يمشي. فقال له: يابن رسول الله ما هذا؟ قال: أريد سفرا أعد له زادا أحمله إلى موضع حريز -أي مكان حصين وآمن-!!
فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك.
فأبى. وقال: أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فانصرف عنه. فلما كان بعد أيام قال له: يابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا. قال له الإمام: بلى يا زهري.. ليس ما ظننت، ولكنه الموت وله أستعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام وبذل الندى في الخير.
نعم.. وهذا هو منطق الذي يعيش الدنيا لآخرته.

* الإضاءة 15
ماذا أقول في إمام كان إذا أصبح خرج غاديا في طلب الرزق. فقيل له: يابن رسول الله أين تذهب؟ فقال: أتصدق لعيالي. قيل له: أتتصدق؟ قال: من طلب الحلال فهو من الله عزوجل صدقة عليه.
نعم.. وهذه رسالة إلى الشباب الكسالى.. قوموا إلى الإنتاج من حلال في الصباح الباكر.

* الإضاءة 16
ماذا أقول في إمام حكى إبنه الإمام الباقر أنه قال علي بن الحسين مرضت مرضا شديدا.. فقال لي أبي (الحسين عليه السلام): ما تشتهي؟ فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على الله.. ربي ما يدبره لي. فقال لي: أحسنت ضاهيت إبراهيم الخليل حيث قال له جبرئيل: هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي، بل حسبي الله ونعم الوكيل.
نعم.. وهل نحن نتعامل مع الله بهذا الأدب الراقي؟!

* الإضاءة 17
ماذا أقول في إمام قال فيه الراوي: جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه فرفع رأسه إليها وظنت الجارية منه عقابا!!
فقالت الجارية: إن الله يقول “والكاظمين الغيظ”
فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: “والعافين عن الناس”. قال لها: قد عفى الله عنك. قالت: “والله يحب المحسنين”. قال: إذهبي فأنت حرة.
نعم.. فلنطبق هذه الآية تأسيس للعلاقات الإيجابية مع الآخرين.

* الإضاءة 18
ماذا أقول في إمام قيل أن في المدينة كان رجل بطال يضحك الناس منه. فقرر أن يضحكهم على الإمام وهو يمشي في الطريق. فجاء حتى انتزع رداءه من رقبته، ثم مضى، فلم يلتفت إليه الإمام لتفاهة فعله، فاتبعه الناس وأخذوا الرداء منه.. فجاؤوا به فطرحوه عليه، فقال لهم الإمام: من هذا؟ فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة. فقال: قولوا له: إن لله يوما يخسر فيه المبطلون.
نعم.. متى ما وعى الإنسان لهذا اليوم تجنب الباطل في سلوكه كل يوم.

* الإضاءة 19
ماذا أقول في إمام كان لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم إلى حج بيت الله الحرام.. فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟ فقالوا: لا. قال هذا علي بن الحسين. فوثبوا إليه فقبلوا يده ورجله… فما كان منه إلا خرج إلى قافلة أخرى لم يعرفوه.. ليتمكن من خدمة الحجاج.
نعم.. هذا من أبعاد الإخلاص لله وتربية النفس. فهل نمارسه نحن؟!

* الإضاءة 20
ماذا أقول في إمام كان إذا أتاه سائل يقول له: مرحبا بمن يحمل زادي إلى اﻵخرة.
نعم.. وهناك فينا من ينهر السائل ويهين المحتاج المتعفف.. أو يبخل في مد يد العون للمستضعفين. ولا يفعله إلا من نسي آخرته.

* وأما رسالتنا.. وليس عندي ما أقوله سوى أن تعالوا لنشد العزم في التأسي بهذا الإمام العظيم في كل أبعاد حياته.. فإنه ابن بنت نبيكم محمد الذي فال فيه ربكم عزوجل:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
فكم نحن اليوم بحاجة إلى اتباع أئمتنا الذين اتبعوا جدهم رسول الله بأعلى درجات الدقة والإهتمام. وما أحوجنا إلى قيمهم الإيمانية وأخلاقهم العظيمة وخصالهم النبيلة والتعلم من مواقفهم السامية التي كانت تقف خلفها قلوبهم الرحيمة…

أيها الحفل الكريم.. إن المأموم في صلاة الجماعة تجب عليه المتابعة لإمام الجماعة، فلا يكون هذا واقفا وذاك راكعا.. وذاك ساجدا وهذا جالسا!!
وكذلك متابعتنا لأقوال وأفعال النبي وأهل بيته يجب أن نجعلها حذو النعل بالنعل.. أليس الله تعالى يقول:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وهذا يتطلب منا ثلاثة شروط:
1. أن نقطع رجاءا من غير الله.
2. أن نركز على عاقبتنا في اليوم الآخر.
3. أن نذكر الله كثيرا.
وقد ضخ الإمام زين العابدين في الأمة من أدب الدعاء أجمل لغة في الأذكار وأعذب كلمات في مناجاة الله جل جلاله. فإن التزمنا بهذه الشروط وفقنا الله في التأسي الناجح.

للاعلى