المبعث النبوي الشريف..
زاد الإنبعاث الحضاري الحق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ألحمد لله رب الرحمة والتقى ومبغض القسوة والردى.. الذي بعث إلى الناس الأنبياء وختمهم بأكملهم محمد المصطفى.. ونصب لهم الأوصياء وشرفهم بأهل بيته خير الورى.. واللعنة على أعدائهم إلى يوم القيامة والمنتهى.

قال الله عزوجل:

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

وأما بعد:

ليس من العيب أن ينتقل الإنسان من الضلال إلى الهدى.. بل العيب أن يدعي الهداية ويمارس الضلال ويتردى!!

فالأنبياء عموما.. ونبينا العظيم محمد بن عبدالله خصوصا إنما بعثهم الله على مراحل زمنية من التاريخ ليبعثوا في الناس همم الخروج من ظلمات الخبث والجهل والتخبط والدخول إلى نور (التزكية النفسية) و(العلم النافع) و(الحكمة العملية).. وهذا هو السلم الثلاثي لنظرية الإسلام في الإنبعاث الحضاري للإنسان والمجتمعات البشرية. وترتكز على أصالة الكرامة الآدمية.. منها بدأ النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بعثته الحضارية الحقة الممتدة غاياتها إلى الجنة.. فتعامل مع الإنسان المسلم وغير المسلم وفق هذه الكرامة الذاتية الأولية إنطلاقا من الآية المباركة:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).

وعليه فما من حق أقره الإسلام للإنسان الفرد وللإنسان الجمع إلا وروحه ناظرة إلى مبدأ الكرامة.. بل وامتدت النظرة الإسلامية للحقوق لتشمل الجمادات والنباتات والحيوانات والحشرات أيضا.. وذلك نظرا لارتباطها المباشر أو غير المباشر بالإنسان والمجتمع الإنساني.. فليس لأحد في حالة الحرب أن يضر حتى بالطبيعة فضلا أن يجوز له الإضرار بها في حالة السلم فكيف أن يذبح على الهوية ويفجر الأبرياء في بيوتهم أو بيوت العبادة أو الطرق العامة!!

وهنا سؤال يفرض نفسه.. هل تحققت لدى المسلمين تاريخيا هذه الحضارة القمة في الرحمة والإنسانية؟

نعم لقد تحقق بعض قيمها في بعض المساحات المحدودة بعد أن أرسى لها قواعدها النبي الأكرم (ص) في أقواله وأفعاله.. ولكنها في الأكثر أصيبت بالإنتكاسة بعد رحيله وإلى زماننا، حيث اختلط الحق بالأهواء وتمازجت الأهواء بالحق وانقلبت الموازين حتى صار المنكر معروفا عند أغلب المسلمين وصار المعروف منكرا يعاقبون عليه!!

فليس ما أتى به رسول الله (ص) من قيم العدل والمحبة والعقلانية والأخلاق والعفو والإحسان والرحمة والتكافل مثلا أخذوها لتعميم الخير.. ولاسيما الأمراء والحكام وأعوانهم إلا قليل من عباد الله الذين وفوا لرسوله وأعطوه أجره في المودة لقرباه.. ولا نعتقد أن من الصعب على كل باحث أن يقرأ تلك المسيرة التاريخية المخزية في أكثر مراحلها، وهي لن تختلف عما عليه المسلمون اليوم شعوبا وحكومات من تخلف وفساد وظلم وأغاني وطرب وتلاعب في الثروات وحروب وتعصبات وقطع رؤوس وتفجيرات إلا اختلافا في استخدام التقنية الغربية والألوان الزاهية…
فأين أهداف النبي الأكرم وأين ما تتلو الإذاعات من آيات القرآن الكريم ومن عظمة المبادئ الإسلامية؟!
كم يذكرنا هذا التناقض المؤلم بين الواقع المخزي وبين الآيات الإلهية بقول الإمام محمد الباقر (عليه السلام): “رب تال للقرآن والقرآن يلعنه”!!!

أ فهل ما نراه على شاشة التلفاز ونسمع من أخبار وما في وسائل التواصل الإجتماعي يسر الله والرسول وأهل البيت والملائكة والصالحين من العباد؟! كلا..

ولكن السؤال المهم: هل يعني ذلك أن البعثة النبوية لم تنجح في مهمتها الإصلاحية وغاياتها الحضارية ورسالتها الإنسانية؟
أيضا الجواب: كلا..
ﻷن النجاح له طرفان طرف فاعل وطرف قابل.. فالطرف الفاعل هو النبي الأمين الذي قام بواجبه قولا وفعلا.. (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).
ولكن الطرف القابل لم يبرز استجابته للبلاغ رغم وضوح الرسالة وهذا النداء:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

فليس للرسول أن يكره الناس على دين الله.. إذن يكون قد خالف مبدأ الحرية في الإختيار…
كما وليس للرسول أن يسفك الدماء.. إذن يكون قد خالف مبدأ السلم…
كما وليس للرسول أن يكذب ويسرق ويساعد ويتولى اليهود والنصارى.. إذن لصار كالحكام الدنيويين قبله وكالحكام الفاسدين بعده وكحكام لازالوا يتغنون باسمه وهم أبعد ما يكونوا عنه!!!

إذن ماذا كان النفع من بعثة الرسول الأعظم إذا كانت أهدافه لم تتحقق في أمته كما أراد وأراده الله.. بل تمت المتاجرة القذرة باسمه الشريف؟!

الجواب: إن النفع كثير جدا.. وهذا قبس من عناوينه:

1. بيان الحق بما هو حق.. إنه قيمة مستقلة بحد ذاته.
2. إتمام الحجة على الخلق لكيلا يظنون بأن الله سوف يشتري تبريراتهم بشيء!!
3. إنجاز المقدار الميسر من الهداية والأثر مرحليا.
4. إختبار الإرادات ليوم الاستحقاق الأخروي.

ما عدا هذه الأمور الأربعة فإن لبعثة الحبيب المصطفى (ص) بركات أخرى لم تدركها عقولنا المحدودة ولم تحط بها أذهاننا القاصرة.. هناك قضايا فوق مستوانا البشري ضاربة في عمق الغيب ولها حساباتها في المعادلات الكونية والحقائق التكوينية.

فمثلا.. ماذا تعرف عن ظهور الإمام المهدي حفيد النبي إبن فاطمة وعلي (صلوات الله عليهم أجمعين).. ذلك الموعود الذي ينتظر الإذن من الله تعالى للخروج إلى البشرية يحقق لها العدل العالمي بعد نفاد فرص الفاشلين في إدارة الحكم على الأرض؟!

من هنا نعتقد بأن العقيدة المهدوية هي التي تعطي الجواب الكافي على السؤال المذكور عن نفع البعثة النبوية.. وإلا فإن سلسلة الأنبياء والرسل كلها والتي توقفت من بعد نبي الإسلام الرسول محمد.. لن تكون قد نفعت شيئا عظيما بمستوى عظمة دوافعها المختزنة في إرادة الله تعالى من أنبيائه ورسله؟!

وهذا ما قاله الله في محكم كتابه:

(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۖ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ).

ونستنتج.. بأن الأنبياء والرسل كما قد مهدوا للبعثة النبوية الشريفة.. كذلك قد مهد رسول الله محمد (ص) لظهور حفيده الإمام المهدي الذي بشر به كل الأنبياء والأديان والمذاهب الإسلامية باختلاف يسير حول التفاصيل.

بناء على هذه البيانات فإن نظرية الإنبعاث الحضاري في الإسلام تتجلى في مرحلتين:

* المرحلة الأولى.. على مستوى الدنيا.

وذلك بظهور الإمام المهدي من آل محمد ويكون أداء دولته الكريمة العالمية كما وصفه جده الإمام الصادق (عليه السلام):

“إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها ورد كل حق إلى أهله ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان. أما سمعت الله سبحانه يقول: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). وحكم بين الناس بحكم داود (عليه السلام) وحكم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولا لبره لشمول الغنى جميع المؤمنين…

وأضاف (عليه السلام):
“إذا قام قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم بين الناس بحكم داود، لا يحتاج إلى بينة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استبطنوه ويعرف وليه من عدوه بالتوسم. قال سبحانه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ).

وقال (عليه السلام) أيضا:
“إن دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا -إذا رأوا سيرتنا- إذا ملكنا سرنا عنده سيرة هؤلاء. وهو قول الله تعالى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)”.

وهذا يدل على وجوب أن يعد المؤمنون أنفسهم فكريا وعلميا وسلوكيا وإداريا ليوم الخلاص العالمي بالمزيد مما هم عليه من الإيجابيات، والأهم فيها هو المواظبة على تنقية النية بالإخلاص لله عزوجل..

* المرحلة الثانية.. على مستوى الآخرة.

وتعني وصول المؤمنين إلى درجاتهم في الجنة حسب درجات سعيهم في دار الدنيا:

قال الله عزوجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

فالحضارة الإسلامية الأصيلة التي تتمحور على كرامة بني آدم وما له من حقوقه الحقيقية هي التي تبعث في المسلم همما أوسع وأفقا أرفع لا تحدها الماديات بالعمران الظاهري من ناطحات السحاب وأبراج إلكترونية ومدن عاتية وصواريخ عابرة القارات وإعلام تسحر العيون و…

بل الرؤية يجب أن تمتد بالجانب المعنوي في الإنجازات المادية.. بل وتمتد بنا حتى ننظر إلى اللذات الأبدية في الجنة والتي من دونها لا قيمة للدنيا كلها.

إذا عرفنا هذه البصائر الأساسية أدركنا معنى البعثة النبوية وعرفنا كم أن المنغمسين في شهوات الدنيا صغار العقل حقراء النفس لا يفهمون من الحياة إلا ما فهمته البهائم لبطونها وفروجها!!

وفي الختام..

فلنتأمل في هذا القول من أقوال الله خالق الكون والحياة:

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ).

مع خالص التحية والدعاء.. داعيكم:
عبدالعظيم المهتدي البحراني
26/ شهر رجب / 1435
2014/5/26

للاعلى