كيف نتعامل مع الفتنة؟

خلاصة محاضرة سماحته في حسينية القصاب بمناسبة مولد الإمام علي (ع) ليلة 13/رجب/1435.

بسم الله الرحمن الرحيم

إن حبنا لوليد الكعبة الإمام علي.. قد جمعنا الليلة في ذكرى ميلاده المبارك لأخذ أهم درس لمواجهة الفتن الفكرية والسياسية والإجتماعية والأسرية والتجارية والإعلامية التي غزتنا كما غزت من كانوا قبلنا ومن يأتون بعدنا.. ﻷن الفتنة سنة الحياة بدليل الآيات الثلاث التالية من سورة العنكبوت:
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).

ولكن الحب القلبي واللساني لا يكفي.. بل الواجب السير العملي وفق ما يطلبه المحبوب.. وذلك أيضا بدليل قوله تعالى:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

كان النبي الأكرم (ص) جالسا مع أصحابه وإذا نظر نحو السماء وقال إني أرى قوافل من جمال محملة بصحف.. من طولها لا يرى أولها ولا آخرها. مكتوب في تلك الصحف أجر رجل مقبل من هناك.. وأشار إلى جهة الطريق.. فتلهف الأصحاب ليعرفوا من يكون صاحب هذا الأجر العظيم. ويسألوه عما فعله من عمل صالح استحق عليه هذا الأجر الكبير؟!
وبينما كانوا يفكرون ويترقبون واذا بالرجل قد أقبل فقاموا وأسرعوا إليه وقالوا له ما سمعوه من النبي (ص) عنه!!
فقال لهم الرجل أني أحب علي بن أبي طالب.

أجل أيها المؤمنون.. أيتها المؤمنات:
نحن نحب عليا مولى الموحدين ولكن يجب الإرتقاء بهذا الحب إلى مستوى الحب عند ذلك الصحابي الجليل حيث كان عاملا بما يرضي الله ورسوله والوصي الحق.

تأسيسا على هذه المقدمة ونحن في زمن الفتن المحلية والإقليمية والدولية كيف يبصرنا إمامنا الطريق إلى النجاة وما هو المهرب من الوقوع في فخ الأعداء؟

ذات يوم قام رجل الى الإمام علي (ع) وقال: أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول الله (ص) عنها؟
فأجاب أميرالمؤمنين (ع):
“إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا …) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (ص) بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟
فقال: يا علي.. إن أمتي سيفتنون من بعدي…
يا علي.. إن القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع.
قلت: يا رسول الله.. فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أ بمنزلة ردة ، أم بمنزلة فتنة؟
فقال: بمنزلة فتنة.
ثم قال لي: يا علي .. إنك باق بعدي ، ومبتلى بأمتي ، ومخاصم يوم القيامة بين يدي الله تعالى فأعدد جوابا.
فقلت: بأبي أنت وأمي.. بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها ، وعلى ما أجاهدهم بعدك؟
فقال: إنك ستقاتل بعدي الناكثة، والقاسطة، والمارقة.. وحلاهم وسماهم رجلا رجلا.
ثم قال لي: وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين، إنما هو أمر من الرب ونهيه”.

هكذا بدأ الإمام (ع) يقرأ خريطة مستقبله ومستقبل الأمة الإسلامية من بعد نبيها محمد (ع).. لذلك وضع لنا منهجا في التعامل مع الفتنة.. وإليكم توجيهاته من خلال ثمانية بصيرة:

* البصيرة 1
(تحديد معنى الفتنة)

يقول الإمام (ع): “لا يقولن أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن ، فإن الله سبحانه يقول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة)”.
وقال (ع): “اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك ، أو أن نفتتن عن دينك”.

فلا يقل أحدنا متى تنتهي الفتن.. بل علينا أن نفهم مضلاتها ونصمد أمامها.

* البصيرة 2
(حقيقة الفتن)

يقول (ع): “إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ; يُنْكَرْنَ مُقْبِلات، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّياحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً”.

أما ترون كيف تهب رياح الفتن على بلد وهناك بلدان تتفرج. إنها تأتي بشبهات وتروح فتنكشف الحقائق وتبدأ الندامات.. ذلك لمن لا يفكر بعقله وفق منهج صحيح.

* البصيرة 3
(معرفة صاحب الفتنة المضلة)

يقول (عليه السلام): “إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل ، مشعوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به”.

فلنحذر أن تنطبق علينا هذه الصفات.

* البصيرة 4
(التأني ودراسة الموقف)

يقول الإمام (عليه السلام): “لا تقتحموا ما استقبلتم من فور الفتنة ، وأميطوا عن سننها ، وخلوا قصد السبيل لها”.

لابد من دراسة الفتنة من مقدماتها والنظر في نتائجها.. ومراقبة خيوطها الظاهرة والباطنة.

* البصيرة 5
(نور التقوى حصن منيع)

يقول (عليه السلام ): “إعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من الظلم”.

تقوى الله هو أن نخاف الحرام وعواقبه الدنيوية والأخروية فلا ندنو شيئا منه.

* البصيرة 6
(شحذ الإرادات)

يقول (عليه السلام): “أيها الناس ! شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة”.

لا للتراجع والإنهزامية إن كنت على حق.. شق الطريق في وجه الأمواج ولكن بركوبك في سفينة أهل بيت النبي الكريم.

* البصيرة 7
(كن واعيا.. فالمستهدف أنت)

يقول (عليه السلام): “قد لعمري يهلك في لهب الفتنة المؤمن، ويسلم فيها غير المسلم”.

فلا تقل لماذا أنا المبتلى بالأزمات وغير المسلمين مرتاحون؟!
الشيطان قد فرغ منهم ويريدك أنت، لأنك مؤمن بولاية علي بن أبي طالب.
فالفضائيات والسياسات تتربص بك ليسلبوك إيمانك وهنا محل الإختبار.. فليس لديك إلا منهج الإمام علي الذي أخذه من الله والرسول.

* البصيرة 8
(لا تكن وقودا للفتن)

يقول (عليه السلام): “من شب نار الفتنة كان وقودا لها”.

دائما كن يقظا في حياتك ولا تقترب من نار الفتنة وترفع رايتها بين الناس.
إن المؤمن الذي يخاف الله على دينه يكون شديد الإحتياط.. ويتحرك كما قال إمامه إمام المتقين:
“كن في الفتنة كابن اللبون.. لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب”.

* وأخيرا.. أيها الإخوة والأخوات:

هذا إمامكم علي أميرالمؤمنين يعتز بنجاح تجربته في فقأ عين الفتنة ويقول:

«أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا. فَأَسْأَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بَيَدِهِ لاَتَسْأَلُونِي عَنْ شَىْء فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، ولاَ عَنْ فِئَة تَهْدِي مِئَةً وَتُضِلُّ مِئَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً. ولَوْ قَدْ فَقَدْتُمُوني وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الأُمُورِِ… وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاًْ… حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّة الأَبْرَارِ مِنْكُمْ».

فإن كنا من شيعته قولا وفعلا فإن النجاح يكون حليفنا وإلا فنار الفتنة تكوينا والعياذ بالله…

(اللهم أدخلنا في كل خير أدخلت فيه محمدا وآل محمد وأخرجنا من كل سوء أخرجت منه محمدا وآل محمد.. صلواتك عليه وعليهم أجمعين).

للاعلى