حُسنُ العاقبة…

تلخيصًا لمحاضرة ألقاها سماحتُه مساء يوم الجمعة (ليلة السبت) الأوّل من شهر ذي القعدة سنة (1437) الموافق (2016/8/5) في حسينية أهل البيت (عليهم السلام) بمحافظة المحرَّق (مملكة البحرين).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

نتوقّف على ضفاف بعض كلمات هذه الآية المباركة قبل الدخول إلى الموضوع:

* أوّلًا.. كلّ نَفس.. وتعني بأنّ الله وحده الذي هو حيٌّ لا يموت. وحتى أشرف الكائنات محمد خاطبه الله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).. فلا إستثناء لأحد.

* ثانيًا.. ذائقة الموت.. وتعني أن الله سيذيق كل إنسان طعم الموت.. فكما نذوق طعم الأكل اللّذيذ سنذوق طعم الموت اللّذيذ إن كنّا مؤمنين حقًّا.. وكما يذوق أحدنا طعم الأكل المزعج كذلك غير المؤمن سينزعج من طعم الموت المزعج.

* ثالثًا.. الأجر الأخرويّ يَقسَّط على قسمين، قسم في القيامة الصغرى وهي تبدأ من ساعة خروج الروح مرورًا بالقبر والبرزخ وانتهاءً بالحشر.. والقسم الثاني في القيامة الكبرى وتبدأ من الحشر إلى جنّة الخلد للمؤمنين أو إلى جهنّم والعياذ بالله بالنسبة لغير المؤمنين.

* رابعًا.. كلمة زُحزح.. وتفيد بأن المؤمن يمرّ على النّار ويؤخَذ إلى الجنة على مهل وبالتدريج إلى أن يُدخَل الجنة.. فيفوز بها على خطى إمامه الذي نادى في محراب صلاة الشهادة: {فُزتُ وربِّ الكعبة}.

* خامسًا.. الدنيا متاع الغرور.. وقد عرّفها الإمام علي (ع) لمعاوية في ثلاثة كلمات ولم يفهمها الرجل: {إعلم أنّ الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ}. واليوم أنظروا أين عليٌّ وأين معاوية؟!

* سادسًا.. البلاء والإبتلاء.. في المال وفي النّفس.. هذا جزء من ثمن دخولنا الجنة. وكما المسمار بالضربات يتثبّت في الخشب والجدار مثلًا.. كذلك نحن.. كلّما تأتينا ضربات يجب أن تُقوِّينا ولا نهتزّ. ويبدو من الآية أنّ الإشاعات الكاذبة والتّهَم التي نسمعها تُقال عنّا هي الأذى الكثير وهو من أشدّ مصاديق الإبتلاء.. فلنصبر ولنتّقي (فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وبالعزم يأتي الفوز.

عرفنا الأذى الكثير ممن أوتوا الكتاب من قبلنا.. اليهود والنصارى.. ولكن من هم الذين أشركوا؟!

جوابه موجود في التاريخ وبالأسماء ولسنا في صدد بيانه!!

ولكن إعلموا أنّ الشّرك أنواع ومستويات ومنها الرّياء.. فلعلّ مسلمٌ في الظاهر يؤذي وهو بالرّياء أو النّفاق وبصفات اليهود والنصارى يكون مشركًا.

خذوا هذه البصائر من الآيات التي افتتحتُ بها كلمتي حتى ندخل في أصل الموضوع ثم نخرج بثمرة…

إخوتي.. أخواتي:

الحياة مَرّة.. ثم نموت.. ولكن هلّا سألنا أنفسنا كيف ينبغي لنا أن نموت؟

البعض يلعب في حياته وخاصّة الشباب ولا يهمّه كيف يموت وماذا تنتظره من مفاجئات.. ولعلّه ظنّ بأنّه مادام يحبّ أهل البيت (ع) يكفيه هذا الحُبّ مفتاحًا للجنة فليفعل ما يفعل من ذنوب.

هذا الإنسان لم يفهم الحياة والموت.. ولم يعرف فكر أهل البيت مع الأسف.

إنه لمّا يريد السفر إلى بلدٍ يسأل عن هذا البلد قبل الذّهاب.. ولما يريد شراء سيّارة يسأل عنها ويفحصها.. ولما يريد الدراسة الجامعيّة يسأل عن التخصّص الأحسن.. ولكنّه حول الموت وما بعده وهو الأهمّ لا يسأل ولا يريد أن يعرف!!

قيل لأمير المؤمنين علي (ع): صِف لنا الموت؟

فقال (ع): {على الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه:

إما بشارة بنعيم الأبد، وإما بشارة بعذاب الأبد، وإما بتحزين وتهويل وأمر مبهم لا يدري من أي الفرق هو.

وأما وليّنا والمطيع لأمرنا فهو المُبَشَّر بنعيم الأبد.
وأما عدوّنا والمخالف لأمرنا، فهو المُبَشَّر بعذاب الأبد}.

المهم أيّها الحضور الكريم أن نتأمّل في الفئة الثالثة التي قال عنها الإمام:

{وأما المبهم أمرُه الذي لا يدري ما حاله، فهو المؤمن المسرف على نفسه، لا يدري ما يؤول حاله، يأتيه الخبر مبهمًا مخوفًا، ثم لن يسوّيه الله بأعدائنا، ويخرجه من النار بشفاعتنا}.

المؤمن المسرف هو الشيعي الذي أسرف على نفسه بالذنوب.. غيبة هنا ولذّة حرام هناك.. وأكل مال الغير هنا.. واتهام بريء هناك.. وهكذا…

دقّقوا في تتمّة جواب الإمام لتعرفوا ما بعد الموت ماذا يحدث فهو الخبير بمعلوماته.. يقول (ع):

{فاعلموا وأطعيوا ولا تتّكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله، فإنّ مِن المسرفين مَن لا يلحقه شفاعتُنا إلا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة}

نعم.. 300 ألف سنة في عذاب القبر والبرزخ يلتوي بنفسه…

ما تسوه عليه لذّاته التي مارسها بالحرام!!

لا أتصوّر أيّ عاقلٍ يقبل لنفسه هكذا مصير !!

مع الأسف البعض يرى الحياة مرتعًا للشهوات ولا شيء بعد ذلك مادام يعزّي للإمام الحسين؟!

أين هذا من فكر أهل البيت…

يسألني البعض عن تفسير رؤياه عن ميّته، فقد رآه في عالَم المنام بملابس رثّة وشكله تعبان وهو يئنّ ويتأوّه…

وقبل أيام سألني أحدٌ عن تفسير منامه بأنّ ميّته قال له في الرؤيا بأنه في محبوس في مكان حارّ ولا يدري إلى متى…

قبل سنوات إنتحر شخص برمي نفسه من مبنى. وقبل فترة قليلة رآه صديقه فقال له لازلتُ أرى نفسي أهوي من مرتفع وأنا معلَّق وأسمع أصواتًا مزعجة.. لا أدري متى ينتهي عذابي…

كل ذلك لأنّهم لم يفهموا المعادلة.. لم يقرأوا الحياة.. لا يدرون شروط الموت السعيد.. وأساسًا لأنهم لم يتعلّموا فكر الإسلام الصحيح من النبيّ وأهل بيته.

هذا الجهل أتى من الثقافة التي تبثّها الأفلام الفاسدة والمسلسلات الفاسدة وحتى السّموم التي جعلها العدوّ في قصص الكارتون لأطفالنا من حيث لا نشعر.

واجبنا أيّها الأعزّاء أن نركِّز على حُسن العاقبة.. فكلّ ما لدينا في الدنيا لن تنفعنا إن لم نجعلها في سبيل الله ونستثمرها لآخرتنا.. فلا تذهب عنكم الفرص وأنتم لا تدرون متى يباغتكم الموت.

يقول رسول الله (ص): {خير الأمور خيرها عاقبةً}.

ذكرتُ في كتابي “قصص وخواطر” قصّة أحد العلماء أنه في ليلة قدرٍ كان عند ضريح الإمام الرضا (ع) يتعبّد. يقول فالتفتّ إلى أطرافي ورأيتُ عددًا من كبار الفقهاء موزَّعين.. كلّ واحد منهم منشغل بالعبادة. فطرأ ببالي أقوم وأسألهم لو أنّ الله أخبركم أنّي سأستجيب لكم الآن حاجةً واحدةً فقط. فما تلك الحاجة التي تطلبونها؟

قمتُ من مكاني وسألتهم دون أن يعرفوا أجوبة بعضهم البعض فوجدتُهم كلّهم متّحدين في هذا الجواب: نطلب حُسن العاقبة.

نعم.. حُسن العاقبة.. فكم يكون مؤلمًا بل وأليمًا إذا تعب أحدنا سنوات وجمع مالًا ليبني به دارًا ولمّا قرّر البدء في المشروع وإذا بنيران تلتهم الصندوق وتحترق الأموال كلّها!!

هذا يعني سوء العاقبة.. ولكن فكّر في العكس.. كم ستكون سعيدًا لمّا ترى ثمرة أتعابك بين يديك فتتنفّس الصّعداء.

الموت بالنسبة للمؤمن الحقيقي -كما في رواية الإمام زين العابدين (ع)- مثل الذي ينزع ثيابًا وسخًا ويتنظّف ويلبس ثيابًا جديدًا. هذا يعني حُسن العاقبة.

رأى النبيّ عيسى عمّالًا يضعون الأسس للبناء.. فقال لهم إنّ الأساس القويّ يوضع في النهاية!!

إستغربوا من كلامه. فسألوه كيف يكون ذلك؟ قال إنّ الأساس الأخير من حياتنا في الدنيا هو الأساس الأوّل من حياتنا الأبديّة في الآخرة.

هذه هي النظرة العقائديّة إلى وجودنا المؤقت في هذه الحياة أيّها الأحبّة.

قرأتُ اليوم وأنا أُحضِّر لهذه الكلمة رواية عن النبي (ص): {لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتّى تنظروا بما يختم له، فإنّ العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنّة ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيّئاً}.

وفي موقف من روائع الإمام عليّ (ع) أنّ رجلًا جاء وقـالَ له:

يا أميرَ المؤمنين، لقد اشتريتُ داراً وأريدُ أنْ تكتـُبَ لي عَـقـْدَ شـِرائها بيدِك..

فنظر الإمامُ إليه بعين ِالحِكمَةِ الثـَّاقـِبة ِفوجَـد الـدُّنيا قـَدْ تربَّعَـتْ على عَـرْش ِقـلبه حتى أنـْسَتـْه ذِكـْرَ ربِّه..

فماذا يفعـَل ليُلقـِّنَه دَرْسا في ذِكـْر ِاللهِ كي يطرح الـدُّنيا وراء ظـَهـْره ويدلّه على الآخرة وجـَنـَّاتِ النـَّعـيم؟!

أمْسَكَ الإمام قلمه فكتبَ بعْـدَما حَـمَـدَ الله َوأثنى عليه:

أما بعْـدُ..

فقـَدْ اشترى مَيـِّت ٌمِنْ مَيـِّت ٍ داراً في بـَلـَدِ المُـذنبين وسِكـَّة ِالغــافلين.

لها أربعَـة ُحُـدود ٍ..

الحَـدُّ الأوَّلُ ينتهي إلى المَـوت ِ ..
والحد الثـاني ينتهي إلى القـَبـْر ِ ..
والحد الثـالِثُ ينتهي إلى الحِـساب ِ ..
أمَّا الحد الـرابعُ فينتهي إمَّا إلى الجَـنـَّة و إمَّا إلى النـَّار ِ!!

وأنشَدَ قــائلاً :

الـنـََّفـْسُ تـَبْكِي عَـلَىْ الـدُُّنـْيَـا وَقَـَدْ عَـلِمَتْ
أَنَ السـَّـلامَة فـِيِهَــا تـَرْكُ مَــا فِـيْهَــا

لا دار َللـمَــرْءِ بعْـــدَ المَـــوْتِ يَسْــكـُنـُهـا
إلا التي كــانَ قـَبْــل ِالمَــوْت يـَبْنيهــا

فـإنْ بنـــــاهـا بخـَيْـر ٍطــــابَ مَسـْكـَنـُهـــا
وإنْ بنـــــاهـا بشـَرٍّ خـــابَ بانيْهـــا

أيْــــنَ المـِلـــوكُ التي كـانـَتْ مُسَـلـْطـَنة ً
أما سَـقــَاها بكأس ِالمَـْوتِ ساقـيها

أمْـوَالـُنــا لِــذوي المِـيْـــراثِ نجْـمَعُهــــا
ودُورُنــــا لِخـَــــرابِ الـدَّهْــرِ نبْـنيهـا

كمْ من مَـدائـِن َفي الآفـــــاق قـَدْ بَُنيــَتْ
أمْسَتْ خـَرابَـاً وأفنى المَـوْتُ أهليهــا

لكـُـلِّ نفـْـس ٍوإنْ كانـَـــتْ على وَجــَل ٍ
مِـنَ المَـنـِيـَّـــة ِآمـــــــــــالٌ تـُقـَوِّيها

المَـَرْء يَبْسِطـُها والـدَّهْـرُ يَقـْضيْهـا
والنـَّفـْسُ تـنـْشُرُها والمَـوْت يَطـْويْها

إنَّ المَكـــــــارم َأخــْــــلاقٌ مُطهَّـره ٌ
الـدِّيـْن ُ أوَّلـُهــا, والعَـقـــــْلُ ثــانيْها

والعِـلمُ ثـالـِثـُها , والحِــلمُ رابعُهــا
والجُـودُ خـامِسُها , واللـَّيْـنُ ساديْها

والبـِرُّ سابعُها ، والشُّكـْرُ ثــامنـُهـا
والصَّبْرُ تاسِعُها , والفضـْلُ بـاقـِيْهـا

والنـَّفـْسُ تعْـلـمُ أنـِّى لا أصــادِقـُها
ولسـْتُ أرْشـَــدُ إلا حـِيْـن أعصيهــا

لا تـَرْكـَنـَنَّ إلى الـدُّنيـــــا وما فـِيهـا
فـالـمَــوْتُ لا شـَكَّ يُفـْنيْنـا ويُفـْنيْهــا

واعْمَـلْ لـدارٍ غـداً رضوانُ خــادِمُها
والجــارُ أحْـمَـد ُوالـرَّحْـمنُ ناشيْهــا

قصُورُها ذهَـبٌ والمِسْك ُطـِينتـُها
والزعْـفرانُ حـَشيْشٌ نـــابـِتٌ فـِيْها

أنهارُها لبن مُصَفـَّى ومِنْ عَسل ٍ
والخمْرُ يجْرى رحيْقاً في مَجاريْها

والطيرُ تجْرى على الأغصان ِعاكفة ً
تـُسَبـِّحُ اللهَ جَـهْـرَاً في مَغــانـِيْهــا

مَنْ يشْتري الدارَ في الفِرْدَوس ِيعْمُرها
بـِرَكـْعَــةٍ في ظــــلام ِاللـَّيْـل ِيُحْـيْها

سَمِع َالـرجُـل هذا الكلام من أمير المؤمنين فدخل إلى مسامع ِ قـلبـِه وعَلِمَ أنّ الإمامَ إنما أراد َبذلك أنْ يكْـشِفَ الحُـجُـبَ الكثيفة َعَنْ قـلبـِه الغـافِـلِ , وأيْـقـَنْ أنَّ الرازق َهو اللهُ ، وأنَّ المُعْـطى هو الله ، وأنَّ خيْـرَ الديار هي الدارُ الآخرةِ فبكى بكاءً مريراً وقال للإمام:

يا أميرَ المؤمنين ، أشهدك أنني قـَدْ تصدَّقـْتُ بداري هذه على الفقراءِ والمساكينَ وأبناء السبيل ِ!!

وفي الختام:

لابدّ لنا من أعمالٍ نلتزم بها لنحقّق العاقبة الحُسنى قبل أن نموت بالنّدامة التي لا رجعة منها. من تلك الأعمال:

* العمل بالواجبات وترك المحرّمات.
* برّ الوالدَين وحُسن الخُلق مع الزوجة وبالعكس.
* الصدقة وقضاء حوائج الناس.
* ولاية أهل بيت النبيّ (ص).
* عدم التورّط في حقوق الآخرين.
* قراءة دعاء الغريق يوميًّا والأفضل بعد كل صلاة. فقد قال الإمام الصادق (ع): {ستُصيبُكُم شبهةٌ فتبقون بلا عَلَمٍ يُرى ولا إمامِ هُدى ولا ينجو منها إلا مَن دعا بدعاءِ الغريق}.

يقول الراوي.. قلتُ: وكيف دعاء الغريق؟

قال (ع): {تقول.. يا اللهُ يا رحمنُ يا رحيمُ يا مُقلِّبَ القلوبَ ثَبِّت قَلبِي على دينِك}.

للاعلى