الإنتظار…
أدلتُه.. وحِكمتُه

تلخيصاً لمحاضرة سماحته في ليلة النصف من شهر شعبان مولد الإمام المهدي (عجّل اللهُ فَرَجَه الشريف) في حسينية أهل البيت (عليهم السلام) بمحافظة المحرق – البحرين. (1436).

بسم الله الرحمن الرحيم

الفَرَج بعد الشدّة هو المبدأ القرآني الذي أكّدت عليه هاتان الآيتان بالتكرار:

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)

وهي أساس عقيدتنا في انتظار الإمام المهدي القائم من آل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).. إنها عقيدة دينية أمضاها ربّ العالمين حينما خاطبنا كمؤمنين قائلاً: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ودعانا بذلك إلى الإرتباط بهذه البقية الإلهية وهو جوهر الإنتظار. بل الإنتظار عقيدة راسخة في الفطرة.. ولولاها لما عاش الإنسان مع الأمل، ولولاها لما انتظر المريض شفاءه وكافح العامل في كدّه ودرس الطالب وعينه على شهادته ومستقبله.. ولولاها لما نام الإنسان وقلبه ينبض باليقظة كي يبدأ مشواره الجديد بنشاط جديد…
ولولا الفطرة المؤمنة بالإنتظار لما كان يدفع الإنسان يتزوج والزوجة الحامل تنتظر مولودها وكلاهما ينتظران المزيد من الاستقرار والسكن والسعادة…
ولولا الإنتظار كأملٍ لِجَني الثمار لما كانت الشعوب تتحرّك للبناء والعمران وإدارة الدول وتشييد الحضارات…
لذا فحتى الإنسان المادّي والمسلم غير المتديّن يعمل وهو يأمل الأفضل في أموره.. وهذا يدل على أن الإنتظار فطرةٌ إنسانية.. ويتجلّى هذا الإنتظار في شخصية المتديّن الموالي لأهل بيت النبي محمد بأكمل مستوياته في انتظاره لإمامه المهدي الذي وعد به القرآن والرسول لخلاص البشرية كلها وتحقيق العدل الكامل في حياتها.

وسأتناول البحث من زاويتين:

? زاوية الأدلة:

1/ من القرآن الكريم

❄ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).

❄ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

❄ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

❄ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

2/ من الحديث الصحيح

? قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “المهدي مِن ولدي إسمُه إسمي وكنيتُه كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، تكون له غَيبةٌ وحيرةٌ حتى يَضِلَّ الخَلقُ عن أديانهم، فعند ذلك يُقبِل كالشهاب الثاقب، فيملؤها عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً”.

? وقال أيضاً: “أُبشّركُم بالمهدي يُبعَث في أمّتي على اختلافٍ من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكنُ السماء وساكنُ الأرض”.

? وقال أيضاً: “الأئمة من بعدي اثنا عشر، أوّلُهم أنت يا عليّ وآخرُهم القائم الذي يفتح الله عزّوجل على يدِه مشارقَ الأرض ومغاربَها”.

? يقول الراوي سمعتُ الإمام الجواد (عليه السلام) قال: “إن الإمام بعدي إبني عليّ، أمرُه أمري وقولُه قولي وطاعتُه طاعتي، والإمامُ بعده إبنُه الحسن، أمرُه أمرُ أبيه وقولُه قولُ أبيه وطاعتُه طاعةُ أبيه.
ثم سكت (عليه السلام). فقلت له: يابن رسول الله، فمَن الإمام بعد الحسن؟
فبكى بكاءًً شديداً ثم قال (عليه السلام):
إنّ من بعد الحسن إبنُه القائم بالحق المنتظر.
فقلت له: يابن رسول الله، ولم سُمِّيَ القائم؟
قال: لأنه يقوم بعد موت ذِكرِه، وارتداد أكثر القائلين بإمامته.
فقلت له: لِمَ سُمِّيَ المنتظر؟
قال: لأن له غَيبة تكثُر آياتُها.
ويطول أمرُها فينتظر خروجَه المخلصون، وينكُره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذب فيه الوقّاتون، ويهلك به المستعجِلون، وينجو به المسلمون”.

? زاوية الحكمة:

بذلك تتبيّن الحكمة من الإنتظار في عقيدتنا المهدوية بأنه الأمل في الخلاص:

من الجهل والسفاهة والتخلّف والحمارية.
ومن السلوك البهائمي البغيض والدناءة والمعاصي.
ومن حكومات الظلم والفساد وسياساتها في الإذلال والإستعباد.
ومن عصابات التكفير والغيلة وسفك الدماء.
ومن حروب الدمار والإستعمار.
ومن الفقر والبؤس والشقاء والمرض والألم.
ومن الأفكار البشرية الضالّة والشعارات الخادعة والقوانين الجائرة.
ومن مصانع إنتاج أسلحة القتل والإبادة وسماسرتها المتاجرين بدماء الأبرياء.

? وأخيراً:

ليس الإنتظار هو التفرّج على الواقع الفاسد، بل هو العمل العقلاني المتواصل باتجاه الهدف الصالح. فمهما كان الإنسان متيقّناً بطلوع الفجر وإشراقة الصباح فهو يشعل مصباحاً ليضيء حوله في ظلام الليل الدامس دون أن يستسلم للركود أو يتعثّر في الحركة بين ركامٍ سود!!

من هنا فعلى كل شيعي بما لديه من مخزون حسيني لا ينفد أن يتطلّع نحو غدٍ مهدوي لن يخلف.. يوم ينادي المنادي في السماء: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا).

ففي زمن الفتن المضلّة والتفجيرات الجبانة والمؤامرات الإستكبارية ليس للإنسان -المسلم وغير المسلم فضلاً عن الشيعي- إلا أن يُملء قلبَه الأمل وروحَه التفاؤل ونفسَه الطمأنينة بالوعد الإلهي الحق. وقد انبرى أعداء الله في هذا الزمن وكالأزمنة السالفة بتصعيد موجة الإجرام ليسلبوا منكم الإنتظار بهذا المفهوم الإيجابي.. ولكن هيهات.. فلو كان المنتظِرون يُجمّدهم اليأس على امتداد 1181 عامٍ من عمر الإمام المنتظَر المهدي لما كانوا يعيشون قروناً ويمتدّ وجودهم في العالَم اليوم امتداد رجال يتحدّون الإرهاب بسلام السلم والأخلاق والتمهيد ليوم الإنقاذ العالمي. وهذا أكبر دليل على بركة الإنتظار في حياة الشيعة منذ انتموا إلى دين الله دين محمد وآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

للاعلى